جعفر الظفاري

جعفر الظفاري
جعفر الظفاري

مر الدكتور جعفر الظفاري في حياتنا كرائحة الخزامى يأتي بها النسيم البليل ثم تبددها الذاكرة الشاسعة ولكن يبقى منها في الوجدان ذلك الجمال العذب الذي يبقى من الصب بعد زوال الصبابة. كان الدكتور جعفر الاستاذ في جامعة عدن الذي رحل عن دنيانا بلا ضجيج أستاذاً في الكياسة وفن الهدوء العلمي المليء الذي يجيده الكبار ويأنف منه الصغار الذين يعشقون قرع الطبول وترك الدوي دون أن يتعملقوا ليصلوا حد وصف أبي الطيب:
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر

كان مطبوعا على السجية مأخوذا بالاكتشافات الممتعة في الدراسات التاريخية وقراءات ما بين السطور من انحيازات الفكر المبرمج وأغلاط المدونين وأغراض ذوي النزوعات العنصرية الذين يتجافون عن الفتوحات البشرية الكبرى في تمجيد الإنسان الخليفة، فتجدهم يخوضون في أوحال السلالات والألوان وذيول التعصب الممقوت، الذي يحول العقول إلى هياكل خشبية لا نبض لها ولا طعم ولا رائحة، ويجعل من التاريخ مزاراً للمرضى الذين لا يرون سوى صورهم في المرآة. آخر مرة رأيت فيها الدكتور جعفر في صومعته بجامعة عدن حين صحبني إليه بإلهام مبهم الصديق حامد جامع مريده وتلميذه وصديقه وقد أهداني مجموعة من مجلة «اليمن» التي تصدر عن مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن وقرأت في أعدادها بعض أبحاثه المشغولة بعناية ولغة جزلة وخيال خلاق مع قدر هائل من التواضع المعرفي والحوار غير المرئي مع الرأي الآخر، شعرت أمامه أنني أمام خزانة من العلم لايمكن سبرها في جلسة، ذلك أن صاحبها يضن بها على عابري السبيل الذين لا جلد لهم كأنما هو الحلقة الأخيرة في سلسلة العارفين الذين يضيئون الحياة عقب رحيلهم دون أن يكلفوا أحداً عنتاً أو حتى ثناء لا يريدونه ولا يسعون إليه بل ويرفضونه من الأساس كأن قامة مهيبة من النور والشفافية والحس الإنساني العميق والحب الغامر لدرجة أنني عتبت على نفسي مجيئي إليه على عجل وبدون هدف مرسوم، وخجلت من تلك السماحة الفارهة التي يشع بها وجه كريم لن تجد الحياة على قسوتها فيه معتبا:
تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله

في مكتبة «الحاج عبدالحميد عبادي» بكريتر عدن رأيت الكتيب الذي استعرت عنوانه لمقالي «عرف الخزامى – دراسات في التاريخ اليمني» الدكتور جعفر الظفاري وقد قضيت وقتا ممتعا عظيم الفائدة مع صفحاته الأربع والتسعين ضمن طبعته الأولى 2008م. لم يكن الكتاب مفهرساً ولم يقدم تعريفا بكاتبه وليس له مقدمة وقد تفهمت كل ذلك كجزء من مسيرة الاستاذ جعفر وأسلوبه في العيش والإبداع والنأي عن «الأنا» ومن دراسات الكتيب التي نشرت في بعض المجلات اليمنية هذه العناوين الدالة:
– عقدة اللون الأسود ومسألة الوجود الفارسي في اليمن بعد الإسلام.
– نشر عرف الخزامى بذكر هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة في تهامة وفيه خمسة مباحث حاول الدكتور عبرها إعادة قراءة الجغرافيا والأسماء والدلالات كما حاول الدكتور الصليبي في قراءته لقصة سليمان وملكة سبأ والأعلام الواردة في الثوراة ليعيد موضعة الاسقاطات التاريخية في علاقتها بالأيديولوجيات المعاصرة واستهدافاتها السياسية.

لمحة من أسلوب الدكتور جعفر: «هو الدهر منقلب وملوان، يجرح ويأسو، ويرفع ويضع. فقد ركدت الأسواق التجارية العالمية في القرن السادس الميلادي ومطلع القرن السابع، وإذا بأهل الجزيرة – بوجه عام – وأهل اليمن – بوجه خاص – يعيشون في غضاضة بعد ليان، وإذا بالعمران أطلال دوارس، أو يكاد، وإذا باليوانع من الأراضي مهملات ومعامي ومغامر. فلا يجد رجل «كعلقمة ذو جدن» غير البكاء على ما كان لليمن من سوالف المآثر والمفاخر والمتالد، حين كان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان.

اترك تعليقًا