سالم شائف…

لم تتَّسع له الغُربة وقد عاشها وخَبِرَ امَّحاء المُغترب وضياعه وهوانه، ولم يتَّسع له الوطن وقد صاله وجاله حتَّى أصبح من ضحاياه ونالته نصاله بجُروحٍ لم يبرأ منها، فأصبح فمه مُرَّاً لا يسيغ الزُّلال :
«وَمَنْ يَكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ
يجد مُرَّاً به الماء الزُّلالا»
صاول الأيَّام وصاولته، فوجد ملاذه في الدِّين والتديُّن، فأخذ في وعظ مَنْ لا يتَّعظون وخطاب مَنْ لا يفهمون :
«ومن البليَّة وعظُ مَنْ لا يرعوي
عن غيِّه وخطابُ مَنْ لا يفهمِ»

ذلكم هُو «سالم شايف»، الذي وُجِدَ في قريتنا، «القُدمة»، المُعلَّقة بين الجبال اليافعية، مقتولاً برصاصةٍ مجهولةٍ لا يُمكن لأحدٍ الجزم بمصدرها، وإن اتَّجه أغلب الظنّ إلى أنَّه وضع حدَّاً لحياته في عالمٍ مأزومٍ تتلاشى فيه الآمال وتذوي صُروح الأحلام وتتفتَّت قِيَم الإنسان.

مُنذُ البدء كان نسيجاً وحده لا ينتمي إلى القطيع ولا يسير معه، ولكنَّه لا يُعاديه ولا يشقّ عصاه، وكان يُعبِّر عن نفسه المُتوحِّدة ورُؤاه المُتفرِّدة بعُزلةٍ اختياريةٍ يتأمَّل عبرها المصائر التي طاولت أعلاماً وأفنت أموالاً وأسقطت عُروشاً من الوهم والغُرور البشري وتحدِّي الأقدار والخُروج عن المسار.
قابلته مراراً في سُوق 14 أكتوبر، مشغولاً كَمَنْ لا شُغل له، تجده مع الناس وهُو ليس منهم، وتجده خارج الناس وهُو في صميم همّهم، كَمَنْ يبحث عن حقيقةٍ ضائعةٍ في صحراءٍ من الوهم وبحرٍ من السراب، في عينيه ترى الحيرة الشاسعة وقدراً قليلاً من الأمل الصادر عن الرُّوح، فيما الواقع لا يستجيب له، والناس في السُّوق بين بائعٍ ومُشترٍ ينطبق عليهم قول الشاعر :
«كُلُّ مَنْ في الوجود يطلب صيداً
غير أنَّ الشباك مُختلفاتُ»

وسالم لم يكُن بائعاً ولا مُشترياً، وإنَّما عابراً في دُنيا السُّوق، كذلك الذي يتفيَّأ ظِلَّ الشجرة قبل أن يُواصل الرحيل إلى مدينةٍ فاضلةٍ يحلم بها ولا يُمكنه تخيُّلها أو رسمها، وهذه المنزلة بين المنزلتين، منحته قدراً من السكينة والرضا والقُبول، واصل معه مسيرته وبناء أُسرته وتربية أولاده والاحتفاظ بنفسه غريباً في عالمٍ يدَّعي المعرفة دُون أن يحوز أُسسها.

كُنتُ أُلاحظه أحياناً بتمعُّن، فيُلاحظ مُلاحظين له مُندهشاً، فما من أحدٍ في الأسواق يُلاحظ، فالناس مشغولون بمصالحهم وملاهيهم وما يكسبون وما يخسرون، وكان ينظر بشغف المُترقِّب، لعلَّه يأتي بقبسٍ أو يجد على النار هُدى، ولكن دُون إفراطٍ في الخيال بعد أن تراكمت الخيبات وانفضحت معادن الناس الذين يبتعدون عن الحكمة بقدر ما يقتربون من الطمع، كُنتُ أُردِّدُ بيني وبين نفسي قول أبي الطيِّب :
«وما الخيل إلاَّ كالصديق قليلةٌ
وإن كثُرتْ في عين مَنْ لا يُجرِّبُ
إذا لم تَرَ في الخيل غير شِيَاتِها
وأعضاءها فالحُسنُ عنكَ مُغيَّبُ»

كذلك هُو حال الناس، لا يُمكن الحُكم عليهم من هرجهم وما يدَّعون، وإنَّما يُمتحنون كما يُمتحن الفُولاذ في النار، وكان سالم شايف يخوض معاركه الداخلية ومُعاناته الأزلية في وطنٍ يُعاني، فيما العُمر يمرّ دُون أن تثمر الأشجار أو تندى الأحجار أو يتغيَّر السُّمَّار.
رحمه اللَّه رحمةً واسعةً وغفر له، بل وغفر لنا جميعاً تقصيرنا في حُقوق الغُرباء الذين يمرُّون كالظلال في حياتنا ولا ندرك عظمة ما يُمثِّلون إلاَّ حين نفقدهم.

اترك تعليقًا