أحمد مُحمَّد نُعمان

أحمد محمد نعمان
أحمد محمد نعمان

كان الأُستاذ أحمد مُحمَّد نُعمان، الذي تُحيي جامعة عدن مئويته الأُولى ضمن ندوةٍ علميةٍ ناقشت (23) بحثاً علمياً تناولت سيرته وتنشئته الاجتماعية وقضايا الوحدة والحركة الوطنية ودوره في مجال التربية والتعليم وفي الصحافة والإعلام وموقفه من المرأة والبُعد الوطني والقومي في مسيرة النُّعمان، كان أُمَّةً لوحده، غير مسبوقٍ وغير ملحوق، ولا أظنّ حتَّى أولاده، الذين لازموه أو رفاقه الذين سايروه، قد تمكَّنوا من سبر أغواره الكاملة أو التحليق في آفاقه الفسيحة أو تحليل مرموزاته المُغلَّفة بالحكمة والطُّرفة والتسليم بما ليس منه بُدّ.

كان الأُستاذ يقرأ في النُّفوس أكثر ممَّا يستجلي النُّصوص، ويستقرئ العواقب فلا تغرّه المُقدِّمات، وإن حَسُنَت النوايا، وكان يجهر بما رأى، وغالباً ما لا يجد القبول لدى النُّفوس الجامحة الطامحة المُتطلِّعة إلى قطف الثمار ولمَّا تبدأ البذار، ولم يكُن ليعترض على مَنْ قال بغير ما يرى هُو، وإنَّما يترك له المجال ليُجرِّب ويُفرغ حماسه، فلعلَّ له نظرةٌ يُثبِّتها الواقع والوقائع، ومع ذلك فنادراً ما خالفت الأحداث ما رأى وما صدح به وحذَّر منه الأُستاذ، وكان يُؤلمه ضياع الزمن وتبديد الجُهد وتمزُّق الأواصر بسبب الأطماع والنُّفوس المُتنمِّرة المُستذئبة المُتدافعة كالقطيع، كأنَّها «حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة»، ولطالما ردَّد وقلبه يقطر دماً :
«نصحتهمُ نُصحي بمُنعرج اللَّوى
فلم يستبينوا النُّصح إلاَّ ضُحى الغدِ»

ولكنَّه لم ينزل على اندفاعات «غُزيَّة» ولا غزواتها، ونأى بنفسه وبتاريخ الاستنارة في عقله عن الانقياد للقطيع، وكان له في أرض اللَّه الواسعة مندوحة، بعيداً عمَّا يجنيه الناس على أنفسهم بجهالاتهم وقُصور نظرهم وانبهارهم بالآني الذي يتلامع كسرابٍ بقيعةٍ عن الاستراتيجي الذي يحتاج إلى المُصابرة والمُكابدة وشكم هوى النفس.

جاء الأُستاذ حكيماً رائياً مُتأنِّياً مُستبصراً في زمن «البروباجندا» وضجيج الدعايات التي تُلفِّقها الأكاذيب والمُنازلات الدُّونكشوتية، في زمن الخسارات الفادحة للمُصلحين والمُجدِّدين وورثة الأنبياء، حيثُ «لا رأي لِمَنْ لا طاعة له، ولا تقدير لِمَنْ ألقى السمع وهُو شهيد»، الزمن الذي يفرُّ فيه العُقلاء إلى الفلوات وذرى الجبال والمهاجر البعيدة التي لا يعرفهم فيها أحد، يتنسَّمون أخبار الأوطان وتقلُّبات الحدثان، فهُم الحاضرون الغائبون، المُتبسِّمون الباكون، الرُّعاة بلا قطعان، والمُعلِّمون بلا تلاميذ، والحارثون بلا بذار ولا مواسم، خلَّفوا وراءهم ما استطاعوا من الكَلِم الطيِّب والرُّؤى المُستنيرة ومصابيح الهداية، على أمل أن يخرج من أصلاب العُقوق وأرحام الجهل العاقرة أجيالٌ ثقَّفتها نيران الحياة وقوَّمت مُعوجّها ومهَّدت نُفوسها لتخرج من الظُّلمات إلى النُّور.

كان الأُستاذ في منافيه هُو ذلك الفنار القريب البعيد يتذكَّره قَالُوْهُ بقدر ما يتذكَّره مُحبُّوه، ولم يُبال ذلك المُهاجر الأزلي اليماني بأن يكون له جاهٌ مرموقٌ أو مالٌ ممدودٌ أو دارٌ مقصود، حتَّى وهُو رئيس وزراء كان يُغنِّي مثل «مسيكين من أرض مكناس»، يقول كلمته ويمضي، «إِنَّكَ لا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاء»، ولطالما ردَّد بلسانه العربي المبين العذب الجرس والإيقاع بيت المعرِّي :
«ولمَّا رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلتُ حتَّى ظُنَّ أنِّي جاهلُ»


2

غداً تمرّ المائة عام الأولى على ميلاد الأستاذ أحمد محمد نعمان رائد الوطنية اليمنية في العصر الحديث، تلك النسمة التي عبرت حياتنا كالأحلام عذوبة وصلابة وصبراً جميلا وتحملاً للأذى، ورفقاً وإعراضاً عن الجاهلين، لأنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ولا يزال الأستاذ المعلم حياً في وجداننا، ملهماً لبصائرنا حين تقبل الدينا وهي خادعة، وحين تدبر وهي راجعة، ولا يلقّاها إلا ذو حظٍ عظيم. مسيرة حياة أين منها منازلة الأسود الجائعة، ومقارعة الخطوب الداهمة، في رحلة شاقة بين السجون وصليل القيود، وبين المنافي حيث الوجود كاللاوجود، ثم رحلة أشق وأقسى في مجاهل النفس، والشيم الظالمة للطموحات المتوثّبة، والطبائع المتنمّرة، والإنحيازات المتجبّرة:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد=ذا عفة فلعلّة لا يظلم

طبع الأستاذ النعمان ورفيق حياته أبو الأحرار محمد محمود الزبيري القرن العشرين اليماني بطابعهما وبصمات نضالهما المشترك الذي كان حجر الزاوية في الوحدة الوطنية، والإنسلاخ عن دعاوي الجاهلية، وفرقة المذهبية، وقداسة الحكّام التي جرى تكريسها عبر ألف عام من الأئمة في اليمن. نعم لقد حطّما بمِعوَليهِما تلك الهالة التي صيغت من دماء اليمنيين وحقهم في الحياة، وتغذّت على أرزاق الناس الذين كانوا يموتون في المجاعات، بينما الغلال تأكلها الفئران في المخازن. لا شك أن قيمة الإنسان كانت أقل من قيمة الفأر، فالأخير قد يجري غض النظر عنه ليسرح ويمرح، أما الإنسان فمطارد من المهد إلى اللحد بأعمال السخرة والجباية والتنافيذ وحق “ابن هادي” للأصغر شأناً من الحكام، حتى غدا العويل هو النشيد الوطني، والزحف إلى المهاجر هو البديل عن مسقط الرأس، تلك المهاجرة الكئيـبة التي وصفها الأستاذ مطهر الإرياني في رائعته الغنائية عن أشباح “مذلون مهانون” يؤدون أشق الأعمال، ويتلفتون خيفة إذا ما نابهم هاجس، أو طاف بهم خاطر، أو روعهم حلم غادر، أو طرق بابهم طارق من ليل:

جهل وأمراض وظلم فادح=ومخافة ومجاعة وإمام
والناس بين مكبل في رجله=قيد وفي فمه البليغ لجام
أو خائف لم يدر ما ينتابه=منهم أسجن الدهر أم إعدام

لقد جسد الأستاذ النعمان في سيرة حياته الوادعة، وآثر الرقة والحكمة ومخاطبة الضمائر، وكان يؤمن إيماناً لا يتزعزع بأن العاقبة للمتقّين، وهذه السياسة اقتضت منه صبر الأنبياء، وحلم الزهّاد المستغنين عن الناس، والفقراء إلى الله تعالى. ويبدو لي أنه تأثّر بزعيم الهند المهاتما غاندي، ومن لم يتأثر بغاندي وقد قاد أعظم ثورة سلمية في بلد متعدد الأعراق واللغات والمعتقدات؟ وخلص في تأملاته إلى أن الإصلاح لا يأتي بحرق المراحل، ولا بسفك الدماء، ولا بإرهاب الناس، وإنما بتطويع الإنسان من الداخل، من أعماق النفس، وأغوار العقل، وذلك لا يكون إلا بالتنشئة والتعليم لزرع مُثل العدالة، وحب الخير، وكبت غلو النفوس، والتدرج في الترقي.

لقد أثر الهدف البعيد المنال على القريب السريع الزوال، وكان يرى أن النخب تستعجل الحصاد، فيما البذور لا تزال في عمق التربة تتخلّق، وهذا يؤدي بالضرورة إلى قتل النماء وإفساد السنن، ومن ثم يقود إلى الخسران المبين. كان فيلسوفاً في جماعة هي إلى التهريج أقرب منها إلى العقل، وإلى جني الثمار أقرب منها إلى الزرع، وإلى حب الدنيا ونسيان الإيثار والسخرية ممن يدعو إلى كلمة سواء، ومع ذلك لم يخامره اليأس ، وظل حاملاً مصباح التنوير في وضح النهار لعل من كانوا حواليه أن يتبيّنوا طرق الفلاح. وكلما رأى الشطط – وما أكثره عقب الثورة – كان يعتزل الناس ويعود إلى كتبه وأقلامه وتأملاته. وطالما أخذ عليه الذين لم يفهموا ميله إلى المهادنة والحلول الوسط وتأكيده الدائم على أن السير خطوة إلى الأمام هو أفضل من التوقف أو العودة إلى الخلف. وكانت شعلة الثورة في نفسه قد تحولت إلى قناديل تضيء ولا تحرق، وأودع الجمر لدى صفيّه وتلميذه والوجه الآخر لشخصيته إبنه الأكبر محمد أحمد نعمان السياسي الدنياميكي، والصحفي الجسور، الكاتب الألمعي، والدبلوماسي المحنّك، والذي قضى غدراً برصاص الجهل والحقد في بيروت.

في مئوية الأستاذ نستذكر ما نابنا منه من السناء، وما نابه منا من العناء… ورغم تضحياته ورفاق دربه فما زال الطريق طويلاً، ولكن النهج موجود، والأمثولة حية، والنبع يتدفق، ولسان حال الأحرار ما قاله الزبيري:

نحن هدينا الناس من جهالة=وما علينا أنهم لم يهتدوا


الأستاذ
Aug 7, 2009

كتاب (الأستاذ) أرسله إليّ الصديق مصطفى النعمان سفير الجمهورية اليمنية السابق في البحرين، وسفيرها الحالي في كندا، والكتاب يدور حول سيرة والده وأصداء وفاته، وهو الأستاذ المناضل العلّامة أحمد محمد نعمان رحمه الله تعالى (1909 – 1996)، والذي يمكن القول أن جهاده وتضحياته وانتصاراته وانكساراته تؤرخ لمسيرة اليمن وتطلعات أبنائه وتضحياتهم في القرن العشرين، فقد كان مرآة حيّة لليمني المتواضع اللماح الذكي الصلب الجسور المؤمن الرقيق الحاشية مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لقد جاءكم أهل اليمن أرق قلوباً وألين أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان أغلبية العرب أصولهم من اليمن، فإن هذه القلادة النبوية الكريمة تخصهم جميعاً.

وقد التفت إلى ذكر أمير البيان شكيب أرسلان عندما أرسل للأستاذ النعمان رسالة في 17 أبريل 1940 يطلب منه القدوم إلى جنيف لمساعدته في أعماله الفكرية والكتابية، ويخبره أيضاً بما بعث به إلى إمام اليمن آنذاك يحيى بن محمد حميد الدين يوصية فيه المعاملة الطيبة للبعثات العراقية التي وصلت إلى اليمن لمساعدته في مجالات مختلفة، حتى لا يشعروا بوطأة الغربة، ويحصل لهم ما يزعجهم ويزهدهم عن خدمة اليمن.

ومن ضمن ما أورده شكيب أرسلان وهو الأمير اللبناني الدرزي الشهير قوله في خطابه للنعمان أنه نبّه الإمام بقوله:

“يا مولاي… نحن كلنا عرب أينما وجدنا، وأكثر أصولنا من اليمن، وأنا واحدٌ من الناس، ولو كنت في جبل لبنان من ألف سنة، أعلم أن أصلي من (لخم) من اليمن، وأشعر أن اليمن هو أيضاً وطني، ومثلي ملايين من العرب المتفرقين في الأقطار النائية”.

يعجب المرء وهو يتصفح الكتاب لهذه الحياة الحافلة للأستاذ النعمان، خطيب اليمن كما كان يسمه الإمام أحمد حين كان يعيش في حضرته، تدغدغه الآمال الكبيرة في أن يؤثر عليه لتبنّي الإصلاح والنهوض بالتنمية، وإشاعة العدالة، حتى كشف عن قناع الظلم الذي لبسه واتخذه منهجاً لحكمه، فكاشف النعمان بقول الشاعر:

إني على ما ترين من كِبري=أعرفُ من أين تؤكل الكتف

ومن ثم اتجه الأستاذ إلى نضال من نوع آخر، سياسي وثقافي وتربوي وريادي، وهو ما عبر عنه الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية اليمنية في المقدمة المؤثرة التي قدم بها كتاب (الأستاذ) حيث قال:

“كان الفقيد رحمه الله تعالى رائداً ومؤسساً، وقائداً بارزاً من قادة الحركة الوطنية، وعَلماً شامخاً من أعلامها، ومناضلاً صلباً جسوراً لم تلن له قناة، ولم تضعف له همّة في مقارعة الخطوب ولاطغيان والإستبداد، ومواجهة التحديات المتعاقبة التي خاضها شعبنا، والتي عبّر خلاله الأستاذ عن الضمير الحي للأجيال اليمنية في بحثها الدؤوب عن مقوّمات وجودها وحملها النابع من ماضيها الحضاري المتميّز، والرافد لحركتها وتطلعاتها في الحاضر والمستقبل”.

اترك تعليقًا