لو كان آخر يوم…

قاربت أو بالأصح داعبت في عمود أمس موضوع السفر، ولي في الأسفار تجارب وأحوال، وترانيم وأهوال… وكما نقول فإن أول الرقص (حنجلة) ولا داعي للقول: “إن الرفيق قبل الطريق”، كما هو في “الجار قبل الدار”.

يلومونني أن بعت بالرخص منزلي
وما   علموا  جارا  هناك  iiينغص
فقلت   لهم   كفوراً  السلام  iiفإنما
بجيرانها   تغلوا  الديار  iiوترخص

وكما يقولون فإن من جاور المسعد سعد، ومن جاور المُتعس تعس، وكذلك هو الحال في الأسفار، إما أن يكون رفيقك روضة من رياض الرياحين، وإما أن يكون حقلاً من الأشواك التي تشبه السكاكين، ولذلك سافر مع المجرّب الذي لا يحتاج إلى تجريب، واحذر ذلق اللسان الذي يفرش لك الطريق بالورود، وكل شيء لديه بالمقلوب، ولا تقل كيف لي أن أعرف ذلك، فإن البعرة تدل على البعير, والطباع تظهر في العيون وعلى صفحات الوجوه وفلتات اللسان، فأحسن القراءة، ولا تجعل العلامات تفلت من يديك، فتورثك الندامة. أما إذا وقعت وما أكثر ما نقع “فيا فصيح لا تصيح”، وتحمل رفقيك بالصبر الجميل. وقد ذهبت ذات يوم مع صديق جربته في المجالس وفي حلقات النقاش الذي تسمع فيه الجعجعة ولا ترى أي أثر للطحين، وكانت الرحلة قصيرة من مدينة إلى مدينة في بلد الإقامة، وما كدنا نصل إلى مقصدنا بالسيارة حتى خرجت من داخله كل عفاريت الأرض، فرفض النزول في الفندق الذي حجزنا فيه، ودفعنا الأجرة مقدماً بـ (فيزا كارد)، وذلك تحت ألف حجة وحجة لم تقنعني منها واحدة، وهكذا أخذت أدور معه من مكان إلى مكان وهو لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، “يا بني آدم اهدأ بالله، أهلكتنا باللف والدوران”، علماً أن برنامجنا هو التعرف على المدينة ومعالمها وأسواقها، والغرفة ليست إلا للمنام، وكان الجو حاراً (جهنم الحمراء)، ويا ليته كان يكتفي برفض الغرف المعروضة، وإنما يقوم بافتعال المشاكل مع موظفي الاستقبال، فيغلظ عليهم القول، وكلما حاولت لجمه أو حتى الاعتذار عنه يزداد هياجاً، وهو يقول لي: “إنت مسكين، وعلى نياتك، ما تعرف هؤلاء، على من بيمشّوها”، “إنا لله وإنا إليه راجعون”. المهم… أنه “خلّاها ظلمة ” من أول لحظة، وفي آخر الأمر قال لي: “اسمع… نرجع إلى حيث جئنا، أصل أنا تكلمت مع الزوجة وهي زعلانة مني جداً…” يعني بعد الغداء وبلا إفطار أو غداء، والحر الذي كاد يخنقني، عليّ أن أعود القهقرى مع حضرته لأن زوجته زعلانة، ولما كان ضعيفاً مثل مصّاصة الكوكاكولا، فقد أطبقت على رقبته حتى كادت روحه تزهق، بعد أن جحظت عينيه، وتدلت لسانه، وقلت له: “اسمع يا بن الناس، هذا فراق بيني وبينك، وزدت لكي أغيظه “يا مرة المرة””. ساعتها هدأ واستكان وقال لي: “أنا آسف يا أخي…” وقبل أحقر غرفة عُرضت علينا في ذلك النهار التعيس، ولكن لم يعد للرحلة مذاق، والآن كلما سمع أنني أنوي السفر يقول: “با نسافر سوا يا أبا خالد…” فأرد عليه: “لو كان آخر يوم في عمري… تكلم في أي شيء وكل شيء إلا السفر…” وإلى الغد.

اترك تعليقًا