أيّنا الصّدي

السّياحة تعيد توزيع مداخيل العالم، كما هو شأن أمور كثيرة أخرى في الحياة، فالمخلوق يسترزق من المخلوق، والجميع في كنف الرحمن:

الناس  للناس  من  بدوٍ iiوحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ

حقاً إنهم لا يشعرون من باب الغفلة، ومن باب الإستهانة بمصادر الأرزاق، التي هي قوام عيشهم، وصالح أمرهم، وكم من بلدٍ في هذا العالم لديه من مقوّمات الجذب السياحي ما يجلب إليه أنهاراً من السياح تُوازي أنهار النيل، والمسيسيبي، ورافدي العراق، والغانج المقدّس لدى الهنود، ونهر الصين الأصفر العظيم الذي يقولون فيما يقولون عنه “تجاهل عدوّك وانتظره على الشط فسيأتيك به النهر جثة هامدة”، وهذا النهر يُبنى عليه اليوم أكبر سد في المعمورة، إستهلك جانباً عظيماً من حديد وإسمنت العالم فرفع الأسعار في كل مكان، إنها الصين، تعيد قصة بناء سورها العظيم في مآثر عملاقة بدأت ولن تنتهي في الزمن المنظور، وعسى أن تُلهم قوماً غافلين ما زالوا في غيّهم يعمهون، ولأحقادهم وصغائر نفوسهم يستمطرون.

هذه البلدان الغافلة ذات الحكومات الفاشلة تتعاجز عن بناء حمام نظيف على طريقٍ عام يمتد لمئات الكيلومترات، أو تشغيل شرفة مزوّدة بالخدمات تطلّ على مناظر ساحرة في بطون الجبال أو على شواطئ البحار، كما أنها لا تعترف بالتثقيف السياحي لإشاعة آداب الضيافة وحُسن الإستقبال، ولا تراقب جودة الخدمات، ناهيك عن تنظيم برامج سياحية تُراعي مختلف الإحتياجات السّنية للأعمار المختلفة من الذين يفدون للإستجمام والإستكشاف، بل إن ما يزيد الطين بلة ترك الحبل على الغارب لمثيري الكراهية ودعاة الإنعزال من المحرّضين على السيّاح والسّياحة، لأنهم يريدون العالم على شاكلتهم، وهم بهذه البلاهة المغمّسة في الجهل يطلبون المستحيل الرّابع بعد “الغول والعنقاء والخلّ الوفي” فالله سبحانه وتعالى جعل العالم متنوّعاً إن رَشُد تنامى وإن ضلّ تفانى، فما بالهم يريدون الخروج على السّنن الكونية وهم يرونها ماثلة في كل شيء حتى في أجسادهم وفي وظائف أعضائهم وفيما يحبّون وما يكرهون.

لكم وددت لو كان في استطاعتي زيارة عجائب الدنيا، وليس السّبع المذكورة، وإنما ملايين العجائب والتجليّات في الطبيعة الصامتة، والطبيعة الناطقة، والطبيعة المتحدّية، وتلك الجزائر الحالمة في عالم الماء، وجزر السندباد، والجبال المتطاولة إلى السّماء يُدثرها اللون الأخضر أو يكللها بياض الثلوج، أو تتدفق من الحمم ومن بعضها الآخر الينابيع، وعلى أشجارها تسبّح الطيور، وترسم الفراشات صوراً من الجمال البديع، وفي أفيائها تسرح وتمرح أنواع المخلوقات، يأتيها رزقها رغداً من حيث لا تحتسب، فهي لا تدخر شيئاً لغدها مما يفعله الشحّ بالإنسان الذي لو كان له وادياً من ذهب لتمنى وادياً آخر، ولا يملأ عينيه غير تراب القبر.

هاتفني صديق يطوف العالم كالنحلة، ولا يكاد يستقر، فهو يركض كالممسوس وراء أعماله التي لاتنتهي، سألته عن تجليّات الجمال وصباحات ومساءات المدن، فضحك من أعماقه وهو يقول: “أنا عندي وقت لهذه الخُزعبلات… من المطار إلى الفندق ومن الفندق إلى المطار… مكانك يا ابن النقيب في تمويهاتك، يا أخي انتبه لرزقك”. قلت له: “وهل من رزقٍ أجمل من رزقي هذا؟!… ستعلم إن متنا غداً أيّنا الصّدي…”

اترك تعليقًا