أحزان في عمّان 18

“الصحة تاجٌ على رؤوس الأصحاب لا يراه سوى المرضى”

حكمة ترددت عبر الزمن حتى ظنها البعض من الكلام المردد المكرور الذي ينبغي أن يُعدّ بين سَقَطِ المتاع، وهي في الحقيقة واحدة من جواهر الكلام، ودقائق الحكمة التي لا يبليها الزمن ولا تطالها أيد الحدثان. فالإنسان السويّ العفيّ المُعافى يمتلك كنوزاً من النعم العُظمى يصرّف بها حياته ويعيش بواسطتها دنياه، ويتواصل مع سواه، ويكتسب كل مطلع شمس المزيد من المعرفة التي توسّع آفاقه، وتثري حياته الروحية، لذلك فإن الطبيب هو واحد من أكبر خلق الله مسؤولية في الدنيا والآخرة، يشهد له أو عليه السمع والبصر وجميع الجوارح التي يعالجها أو يشخّصها، ومن هنا جاءهم لقب (الحكيم) فهذا العلم هو جماع العلوم الجسدية والنفسية والطبيعية، والتأني والمشاورة والمدارسة هي من أعمدة الطب قبل الإقدام, وإلا فالإحجام أولى، ومن أقدم دون تثبّت أو فتح باباً مغلقاً دون أن يمتلك أدوات إغلاقه بأحسن مما كان أو مثلما كان في أضعف الإيمان، فأصاب من صاحِبه مقتلاً فكأنما قتل الناس جميعاً، وهل هناك بابٌ أعظم خطراً أو أكثر رهبة من الدماغ الإنساني؟

وما من عاقل لا يفسح للطبيب (الحكيم) عذراً إذا استنفد كل البدائل المتاحة الأقل خطراً، ثم أقدم عن علم، وفي إطار احتياطات كافية على مخاطرة محسوبة بعلم المريض وبمعرفته وموافقته على التوقعات المحتملة، أما اقتياد عباد الله كما تقتاد الأغنام إلى المسالخ، وضرب أرقامهم التي جردتهم من إنسانيتهم، في أرقام ما سيدفعون لتصوّر بناء ثروات طائلة وقصور عامرة، فذلك هو الخراب بعينه الذي يدمّر الحضارات ويقسط المروءات ويعكس سُلّم القيم ليصبح عاليها سافلها، فتغدو خاوية على عروشها، وفي جيبي الآن من أوراق المطالبات المالية للمستشفى أكثر مما في جيبي من أوراق الأمل المُرتجى. لقد أصبح المطلوب أن تدفع ثمن الرصاصة التي قتلتك، وكأنها رصاصة الرحمة التي تضع حداً لآلام اليائسين، وإن كانت من نوع جديد يجعلك تدفع ثمن نزيفك اليومي بين الحياة والموت.

تحاول (أم خالد) منذ أيام أن تقول لي شيئاً ولا تستطيعه! أي ألم تعانين أيتها المرأة الصابرة المُحتسبة، وفيما أنا أشكو إلى الطبيب “بعبرة” وتحمحم، كأنني حصان عنترة، يحدثني هو عن فتوحاته، فأقول له: “ماذا يفيدني عَمار العالم إذا كان بيتي خراباً أيها النّطاسي الكبير…؟!

 

اترك تعليقًا