أحزان في عمّان 17

لم يعد للإجازة مذاق الدهشة الذي داهمنا في الأيام الأولى.

حين كانت (أم خالد) تسير معنا على قدميها، والتفاؤل يغمرها بأنها قريباً ستشرب من نبع الصحة. كنا نكثّف برنامجنا اليومي لكي نريها أجمل الأماكن التي قرأنا عنها، لأننا بعد العملية كنا قد عزمنا على الذهاب إلى (سوريا) فالعودة المبكرة إلى (أبوظبي)، وكانت الصغيرة (خلود) تزقزق طوال اليوم مثل عصفور كان محبوساً في قفص ثم أُطلق في سماء الله الواسعة.

كنا نسابق أنسام عمّان الصيفية المنعشة فوق جبل القلعة، حيث الآثار الرومانية الخالدة، والقبة الإسلامية الخضراء المُقامة على قصر قيل أنه لمعاوية بن أبي سفيان، والمكتشفة حديثاً، ثم ننزل إلى الساحة الهاشمية، حيث المدرّج الروماني الذي لم يفت في عضده الزمن، وهو يتسع لستة آلاف متفرج، ولا يزال صالحاً للاستخدام حتى اليوم، فقط عليك أن تغمض عينيك وترهف أذنيك لتستمع إلى خيول الامبراطور، وقرقعة سلاح حَرسِه وهو يدلف إلى المدرج قادماً من الأنفاق السرية الممتدة من أعلى (جبل القلعة) حيث سدة الحكم ومستقر الصولجان.

نعم… لم يعد للإجازة مذاق الدهشة، وإنما طعم العلقم. وها هي (عمّان) كأنما غشيها الضباب فتحوّلت إلى صخرة صمّاء تنطحها أحزاننا غير القادرة على خدشها:

كناطح  صخرة  يوماً ليوهنها فلم يضرّها وأوهى قرنه الوعل

(خلود) الصغيرة انسحبت بهدوء إلى داخلها، وكف العصفور عن الغناء، وتجرّحت أوتار الصوت. (أروى) لم تعد تداري دموعها، وأصبحت مثل قشة في مهب الريح. (عمار) الذي كان يحلم بقيادة السيارة في جبال عمّان كبر فجأة عشر سنوات، أخذ يغدق أمه النائمة بحنان عجيب كأنه نبعٌ عذبٌ تفجّر من صخور جبلية، ولم يعد يطلب أو يطالب بأي شيء. مرضت (خلود) ولم تعد تأكل أو تكلمنا، فقط تتحدث إلى نفسها قائلة: “أمي زعلانة مني… ما تريد تكلّمني… بس أمي تحبني، لازم تيجي البيت تسأل عني… لازم… لازم…”. (عمّار) الصلب القوي الشكيمة مرض هو الآخر بعدها وتمدد على الكنبة في البيت تحت الأرضي الذي استأجرناه في (الرابية) يحدّق في الفراغ ويخشى أن يرهقنا بمرضه، لذلك فهو يرفض الاعتراف. التفتّ إلى (أروى) الشاحبة وأقول لها: “حاسبي تمرضين… ترى راح أسقط من طولي إذا فعلتيها… اتخذي قراراً بالبقاء واقفة”.

تسطّحت (عمّان) تحت وطأة المرض، أصبحت مدينة صحراوية بلا جبال، كأنها سرير كبير تنام عليه (أم خالد) التي أخذت تسألني بالإشارات عن أولادها الذين يتغيبون واحداً أثر الآخر.. ماذا أقول لها؟

لم يعد للإجازة مذاق الدهشة، وتساوى الليل والنهار في (عمّان).

اترك تعليقًا