أحزان في عمّان 19

يقول الإمام (محمد بن أدريس الشافعي) في أبيات من الشعر سائرة ذاعة، يعلّقها الكثيرون من الناس على جدران مكاتبهم ومنازلهم، لتكون أمام عيونهم دائماً أشبه بالبلسم للجراح، أو المسكّن للآلام:

دع  الأيام  تفعل  ما iiتشاء
ولا   تجزع  لحادثة  iiالليالي
وطب نفساً إذا حكم القضاء
فما   لحوادث   الدنيا  iiبقاء

والإمام الجليل حين تحدث عن حواد الدنيا وأحكام القضاء والقدر لم يكن في ذهنه بالتأكيد حوادث المستشفيات وما يحدثه بعض الأطباء مما نقرأه كل يوم ويشيب لبعض تفاصيله الولدان.

قال لي الطبيب الجراح المعالج لزوجتي إن ما جرى هو مجرد سوء حظ، وهو تعبير خفيف على اللسان ثقيل في الميزان، فالبعض إن أحسن فمن عند نفسه وإن أساء فمن سوء الحظ، إن لم يقل من عند لله لكي لا يكون إليه أو عليه سبيل.

أحد الدكاترة قال لي: “من يضمن سلامته حتى في حال عبور الطريق؟ وتساءل هل نجلس جميعاً في بيوتنا خوفاً من حوادث المرور؟” قلت له: “ولكن الطريق ليس “سداح مداح” فله أنظمة دقيقة وجزاءات رادعة، وفيه إشارات حمراء وخضراء وبينهما صفراء، ومناطق عبور مخططة للمشاة، وسرعات محددة، ومواصفات للسيارات والسائقين، وبُنية علمية لتخطيط الطرقات وتمهيدها وسفلتتها، وحماية جوانبها، وحتى في الطرق الدولية هناك ضوابط رغم السرعات العالية، ومنها حواجز مانعة للحيوانات السائبة، وهناك قوانين ومحاكم وقضاة، وأجهزة ضبط وتنفيذ. فأين هي الضوابط والجزاءات في حالتنا؟ ومن يحمينا من جملٍ بشري داشر يخرج علينا في الظلام؟!”.

أحد الأخصائيين الكبار قال لي: “السؤال الذي ينبغي أن يوجه إلى أي طبيب هو: “هل كانت هناك ضرورة طبية ماسة للعمل الذي قام به وترتب عليه الضرر؟ وهل جرّب واتنفد جميع الطرق الأقل خطراً”؟ إنه يشبه سؤال شكسبير الشهير: To be or not to be” ذلك هو السؤال، فأين هو الجواب؟

وهناك قصة ضياع المسؤولية بين الجرّاح والمستشفى، ذلك أن الأول يحجز غرفة العمليات والثاني يدّعي الحياد قائلاً إنه يقدم مجرد خدمة لكل من الطبيب المجاز والمريض الذي جاء إلى حتفه بنفسه، وأنه ليس مسؤولاً عن نتائج أعمال الأطباء القادمين من عيادات خارجية. الطبيب – نظرياً – مسؤول أمام نقابة الأطباء، المستشفى – المحايد – مسؤول أمام وزارة الصحة، أما المسؤولية أمام الضمير وأمام الله تعالى فتلك خارج قوانين البشر، لذلك فنحن البشر العاديين نرسل شكوانا إلى الله عزّ وجلّ عبر سهام الأسحار.

إن هذا يذكرني بقصة ساذجة كنا نضحك لها في الصغر، ونتعجّب من ذكاء بطليها، حيث يحمل الأوّل الثاني على عاتقه ليتمكن من سرقة الفواكه من الأشجار العالية، وحين يضبطان ويقفان أمام القاضي يقسم الأول بأنه لم يمد يديه إلى فاكهة صاحب البستان – وذلك حق – ويقسم الثاني بالإيمان المغلّظة أن قدميه لم تطأ أبداً أرض البستان – وهو على حقٍّ أيضاً – ولكن هل كل حق ظاهر هو حقٌ باطن؟

والآن قد كبرنا وجعتلنا الحوادث نجزع حقاً، أصبح الذي كان يضحكنا يبكينا، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

اترك تعليقًا