أحزان عمّان 15

مثل تلك الشعرة التي لا تكاد ترى والتي يقال أنها تفصل بين العبقرية والجنون، هناك شعرة فاصلة بين النجومية الإعلامية المُدَّعِية وبين الرهبنة المهنية المتواضعة، وبمقدار ما تتضخم الأولى تتلاشى الثانية، حتى يقترب العلم من حدود الشعوذة، وتطغلى نزعة تكديس المال وترويج التجارة على قداسة القسم الطبي الذي يرى في المريض قيمة إنسانية مطلقة تساوي حياته حياة كل من على الأرض، وتساوي تعريض حياته للخطر سواء بالمجازفة غير المدروسة أو الإهمال في اتخاذ الاحتياطات الواجبة أو حتى في عدم تبصيره بالحد الأقصى للاحتمالات التي يمكن أن يتعرض لها، يساوي كل ذلك قتل الناس جميعاً.

ولقد وقعت في البراثن المميتة للنجومية الإعلامية الطبية، حيث تختلط الحدود وتضيع الفواصل ولم “أستبين الرشد إلاّ ضحى الغد”. ولكم شعرت بالاحترام العميق والتقدير الواعي لمدير مكتب (الاتحاد) الغراء في عمّان الزميل (محمد الخطايبة) لموقفه الرافض للترويج الإعلامي لمنجزات طبية مشكوك فيها، انطلاقاً من استشعاره للمسؤولية تجاه القارس المتلهف لأي قشة إنقاذ ولو كانت في بريق سراب الصحراء الذي يحسبه الظمآن ماء ولكنه لا يصل إليه أبداً. وهذه المسؤولية الإعلامية في تقديري هي في مستوى قسم (أبو قراط) الطبي وهو قسمٌ لو تعلمون عظيم.

كانت مريضتنا – الأعزّ إلى قلوبنا – تشكو من رجفة بسيطة في يدها اليمنى، عاشت وتعايشت معها زمناً، وتتعاطى لها أدوية موصوفة، وحين ذهبنا إلى عمّان اخترنا الطبيب الذي طَبَقَت شهرته الآفاق في جراحات الدماغ وأمراض (الباركنسون) وما شابه، واعتبرنا رحلتنا سياحة طبية، فقد أكد لنا وكنا قد بعثنا إليه بتقاريرنا قبل أشهر عديدية أن الفحص سيكون بأخذ خزعة (عينة) من اختلاطات الدماغ بواسطة إبرة مصوّبة، وبتخدير موضعي، والمريضة في كامل وعيها، وستبقى يوماً قبل العملية ويوماً بعدها فقط في المستشفى، حيث سيكون ختبر الأنسجة قد أنهى معرفة البقع الداكنة في الدماغ التي تظهر في الأشعة ليتحدد بعد ذلك العلاج المناسب. ولم أكتشف أن الطبيب قد غيّر رأيه من جراحة الإبرة المصوّبة إلى عملية فتح الدماغ – وهي عملية خطيرة – إلا على الصندوق في المستشفى، حيث طلب المحاسب ضعف مبلغ (المقاولة!) المتفق عليه، وبالاتصال مع (النطاسي) الشهير والاستفسار أوضح بزهو أنه يميل إلى استئصال غدة كاملة، وحين سألته عن احتمالات الخطر قال: “أبداً، إنها عملية سهلة أسندها عادة إلى المتدرّبين”، وبسؤاله عن مضاعفة مبلغ (المقاولة) قال لي كلمته الشهيرة: “مبلغ المقاولة الأول – وهو كبير – والله ما يفتح باب غرفة العمليات. منك لله يا دكتور مثلما فتحت علينا أبواب جهنّم وأحرقت قلوبنا… ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

 

اترك تعليقًا