عبدالعزيز المقالح

عبدالعزيز المقالح
عبدالعزيز المقالح

توقَّفتُ بإحدى محطَّات البنزين في أبو ظبي، ولأنَّني مُعجبٌ بالتنظيم الجديد العصري لهذه المحطَّات، الذي يجعل منها واحةً صغيرةً للمُستهلك العابر، حيثُ تُباع الساندويتشات والقهوة والشاي الحارّ بطريقة «اخدم نفسك»، إضافةً إلى المُثلَّجات وأنواع البسكويت والشُّوكولاتة، والأهمُّ بالنسبة لي عدَّة رُفوفٍ في السُّوبر ماركت الصغير، تحتوي الجرائد والمجلاَّت وبعض الإصدارات الحديثة، فقد اتَّجهتُ مُباشرةً إلى ذلك الرُّكن، كأنَّ مغناطيساً يجتذبني إلى هُناك، فوقعتْ عيني مُباشرةً على مجلَّة «دُبي الثقافية»، عدد ديسمبر 8002م، ووجدتها في ورق السُّوليفان الملفوفة فيه، ثقيلةً على غير المألوف، لكنَّني لم أتقصَّ أو أُفتِّش، وقد دفعتُ ثمنها وأخذتها في كيسٍ أنيق، مُمنِّياً النفس بوجبةٍ شهيَّةٍ من القراءة.
في البيت فتحتُ غلاف المجلَّة وأخرجتها، فسقط من داخلها كتابٌ جميلٌ مُربَّع القوام، فاخر الورق، بهيّ الحُروف وعليه صُورة أُستاذنا «عبدالعزيز المقالح»، بوجهه العذب بالغ السماحة ونظرته المُتفرِّسة من وراء النظَّارة الشفَّافة، لكن بترحيبٍ ونداوةٍ وأريحيةٍ تعكس ثقافة الرُّوح المصقولة بالمُعاناة والتأمُّل والاشتغال الطويل على الحُروف وتطويع النفس لتقبُّل المُختلف والاحتفاء بالمُؤتلف والسباحة المرنة بين النقيضين للبحث عن المنزلة بين المنزلتين، التي هي شغف المُفكِّر الحقيقي المنذور لهندسة الجُسور ومدّها، حتَّى إذا أصبحت عائقاً تضرُّ أكثر ممَّا تنفع، تمَّت إحالتها إلى المتاحف صُورةً من صُور الماضي الذي ساد ثُمَّ باد، وهذه من سُنن الحياة التي تُبلي كُلّ قديمٍ وتزدهي بكُلِّ جديدٍ وتُحيل لون كُلّ نضيرٍ لتبعثه، من بعد ذلك، بعثاً جديداً كتجلِّيات الربيع فيما أبقاه الشتاء من قابليات الحياة المُستترة بعد أن امتصَّ مُعظم الرحيق.
ويعجب الإنسان من أُولئك الذين لا يدركون أنَّ الفُصول تتوالد من مواتها، لكنَّ نسغها يظلُّ كامناً في دورة الحياة، حتَّى أنَّ الصحراء قد يجفوها المطر والإجداب السنين الطويلة، فإذا ما لامسها الوَدَقْ ذات يومٍ اهتزَّت وربت وأظهرت زينتها كأنَّها المُروج على ضفاف الأنهار، وكذلك الأمر في عالم الفكر ومغاني الأدب ورياض الشِّعْر، فثمَّة بذورٌ جافَّةٌ إذا لامستها نار الإبداع تحوَّلت أماليد وثماراً يانعة.
الدُّكتور «عبدالعزيز» قارب أُمور الشِّعْر من هذا المنظور الواسع المُحتفي بالحياة، فتحدَّث عنه في سلسلة مقالاتٍ قصيرةٍ مُتَّصلةٍ مُنفصلةٍ تُحبِّب القارئ إلى القراءة ولا تُجهده أو تأخذه بعيداً في التنظير والتقعُّر والاستعراض، فرأى فيه – أيْ الشِّعْر – الرُّوح المُوازية لعاديَّة الحياة، ورأى في اللُّغة الأُمّ الحقيقية للشِّعْر، والمُرضعة التي لا غنى عنها لأطفالها الشُّعراء، وَمَنْ لم يرضع من حليب أُمِّه، فلن يُفيده أيّ حليبٍ آخر.
تشعر أنَّ الدُّكتور قد كتب هذه المقالات السلسة المُتمترسة بدهاء الكتابة المُمتنعة السهلة، لنفسه وفي داخل نفسه، فهُو يتحدَّث على السجيَّة المُثقَّفة التي عَبَرَتْ وديان عبقر مئات المرَّات حتَّى لتستطيع السير في ظلمائها دُون مصباحٍ أو دليل، حتَّى وإن كانت مُغمضة العينين، ولا مجال هُنا لاستعراض تفاصيل الكتاب المُسمَّى «مداراتٌ في الثقافة والأدب»، وَمَنْ أراد النبع، فليذهب إليه، وقد وصف كاتبُنا الكبير الأُستاذ «سيف المري»، المُدير العام ورئيس تحرير مجلَّة «دُبي الثقافية»، بقوله : «الإصدار الجديد الذي بين أيديكم خطّه يراع عملاقٍ من عمالقة الثقافة العربية، وهامةٌ فكريةٌ لها مريدوها وتلامذتها، فالأُستاذ الدُّكتور (عبدالعزيز المقالح)، عَلَمٌ من أعلام الثقافة العربية، ورمزٌ من رُموزها، قبل أن يكون رائداً من رُوَّاد الثقافة اليمنية التي لم يبخل عليها بقلمه الثرّ وعطائه الجمّ وفكره المُبدع الثاقب».
وكتب مُدير تحرير «دُبي الثقافية»، الأُستاذ «ناصر عراق» حول الكتاب الذي يُوزَّع مجَّاناً مع عدد ديسمبر : «في هذا الكتاب يدخل بنا الأُستاذ الدُّكتور (عبدالعزيز المقالح) دُروباً مُمتعةً وطُرقاً شائقة، فيتحدَّث عن الشِّعْر وماهيَّته، ويتناول النقد ودوره وجدواه، ويُناقش فنّ الرواية وقضاياها، ولا ينسى نصيبه من الفنّ وتنويعاته، فيحكي ويُعلِّق ويطرح الأسئلة، وكُلُّ ذلك بلُغةٍ بديعةٍ ناصعةٍ وعباراتٍ باذخةٍ برَّاقةٍ تعوَّدناها دائماً من أُستاذنا الفاضل».
تحيَّاتٌ مُضمَّخةٌ بالحُبِّ والوفاء والامتنان إلى أُستاذنا «المقالح»، وشُكراً لـ «دُبي الثقافية»، التي كرَّست هذا التقليد الجميل بإهداء القارئ كتاباً مُميَّزاً مع كُلِّ عدد، وبذلك ألهمت مجلَّة «العربي» الكُويتية التي انضمَّت إلى قافلة المطبوعات التي تُصدر «كتاب في جريدة» كُلّ شهر.

اترك تعليقًا