خذوا الحكمة…

المثل السائر “خذوا الحكمة من أفواه المجانين” يستند إلى كون المجنون ليس لديه ما يخفيه، كما أنه لا يفكر بالخداع، لأن الخداع من أعمال العقل، حيث لا ينبغي له، ولذلك فإنه قد ينطق بما يرى، فيأتي منطقه كفلق الصبح. ويقال كذلك “خذوا أسرارهم من أفواه أطفالهم” ذلك أن الأطفال ببراءتهم وانعدام أو قلة خبراتهم لا يدركون الحبائل والأفخاخ التي يتفنن الكبار في نصبها لإيقاع الغافلين وعباد الله الطيبين الذين يمشون على الأرض هوناً.

ما علينا… فهذا ليس موضوع حديث اليوم، إنما هو الكلام يأخذ بعضه برقاب بعض كما يقول الجاحظ، وكنت قبل أيام قد ألقيت نظرة على أحد الملاحق الرياضية – التي لا تعنيني كثيراً في سائر الأوقات – فوجدت لدى الرياضيين الكثير من الحكمة التي هي ضالة المؤمن، ومن ذلك أن عمّنا (جوزيف بلاتر) رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم – وهو بمثابة رئيس دولة عظمى تبسط له الفرش الحمراء في كل مكان، أما خزينة دولته فمليئة بمليارات الدولارات تهطل عليه من كل حدب وصوب من غير عناء ولا آبار بترول ولا يحزنون – كان في زيارة إلى فلسطين، فنصح مضيفيه أن يديروا اللعبة السياسية وفق قواعد وفنيات كرة القدم، وقد تأملت هذه النصيحة الذهبية فوجدتها بالغة الحكمة عميقة المغزى، ويمكن أن تكون مرجعية ملهمة وحاكمة، خاصة للسياسيين في بلادنا الذين يلعبون كرة القدم الأمريكية البالغة الخشونة، وقد آن أن يعودوا إلى كرة القدم التي نعرفها ونحبها في هذه البلاد ومعنا تسعة أعشار سكان العالم.

أول قواعد اللعبة وأهمها سيادة الروح الرياضية والتسليم بالنتائج الميدانية، فهناك دائماً غالب ومغلوب في كل جولة، ولكن الكرة تقدّم الفرصة للمغلوب كي يكون غالباً إذا ما استفاد من أخطائه ونمّى قدراته وثمّر معنوايته ومعنويات أنصاره.

ثانياً: اعتماد اللعب الجماعي بحرفية ومهارة “خذ وهات”، دون اللجوء إلى المخالفات الفاضحة، تجنباً للكروت الصفراء والحمراء وحتى الإنذارات الشفوية، وهذا ما ينبغي أن يسود أي تجربة سياسية ناضجة.

ثالثاً: وضع السياسي المناسب في المكان المناسب كما يفعل المدرّب الماهر بلاعبيه، فلا ينبغي أن يكون الناطق باسم الحزب عياً يخرج الكلمات غصباً من بطنه كما تخرج الشاة مولودها من رحمها بشق النفس، ولا ينبغي أن يكون المسؤول المالي مشكوكاً في ذمته، ولا أن يكون رئيس الحزب يتلقى أوامره من دولة أجنبية، فذلك يخالف قواعد اللعب ونتائجه وخيمة طال الزمن أم قصر.

رابعاً: ينبغي العناية بالنجوم من الهدافين والمدافعين وحراس المرمى الحزبي، فالإسناد دائماً موجود ولكن النجم يمثل الموهبة في تجلياتها السياسية الباهرة، وهؤلاء هم الذين دائماً يحولون اتجاهات الرأي العام لأن (الكاريزما) التي تنبع صافية عميقة من نفوسهم تمثل مصداقية لا يستهان بها، كما أنها موضع الثقة لدى أولئك الذين يدعون في علم السياسة “الرأي العام الصامت” والذين لا يتحرّكون إلاّ حين الشعور بالخطر، فيكون تحركهم كالسيول الجارفة وقانا الله تعالى منها.

الباقي من المشابهات والمفارقات وما يتحمله الحكام والمراقبون من ضبط وربط وثواب وعقاب أتركه لفطنة القارئ لكي أصل إلى ما قاله (بيليه) اللؤلؤة السوداء الذي نعى غياب الحب في عالم كرة القدم المعاصرة، مشيراً إلى تحكم المالك باللاعبين الذين يقبّلون اليوم فانيلا إحدى الفرق وغداً يقبّلون نقيضها في مشهد يدل على تدهور قيم التعلق بالأوطان والنوادي، وحتى الجماهير التي لا تغير ولاءها، والمشابهة في تعليق (بيليه) مع عالم السياسة لا يخفى على أحد.

أما (مارادونا) – الذي تم تعيينه مدرباً للفريق القومي للأرجنتين – فقد وصف فريق بلاده بأنه يشبه السيارة (الرولزرويس) أي أنه متين وثمين ومجرّب، ولكنه أضاف أن هذه (الرولزرويس) متسخة جداً وتحتاج إلى من يغلسها… وقد نسى أن يقول “وإني لغاسلها” كما قال الحجاج عن الرؤوس التي حان قطافها “وإني لقاطفها”. وسامحونا يا أهل الرياضة ويا أهل السياسة.

اترك تعليقًا