في منتصف خمسينات القرن الماضي كنا حوالي أربعمائة طالب من يافع، وحوالي المائة أو أقل من محيط مدرسة قعطبة من المدينة والقرى المجاورة والضالع وبعض الطيور النادرة من الأطفال القادمين من مناطق بعيدة لأسبابٍ شتّى.
لم يكن العيش في تلك الداخلية هيناً ليّنا رخاء، ولكنه بمقاييس الوقت مقبولاً، وربما وُجد من يحسد الطلاب على العيش الهنيء: 6 كُدم في اليوم تسلّم صباحاً، وعلى كُلٍّ أن يتدبّر مخبأه وإلاّ راح فيها فطيس من الجوع.

على كلّ حال كانت السّرقات شبه معدومة لأن القيود الأحمدية الثقيلة مع زُبرها ومطارقها كانت بالمرصاد، كما أن (الفلكات) تبحث عن مستحقّيها لتدميهم، وكانت وصايا الآباء ترنّ في الآذان للمدرّسين: اللّحم لكم ولا تبقوا سوى العظم لنا، يا ويلهم من الله، وهل ثمة سوى العظم على أجساد أطفال الريف، حيث سوء التغذية ، وأشباح المجاعات، وواجبات العمل في الأطيان، والذي لا يُعفى منه أحد تجاوز السادسة من العمر وحملته قدماه لصعود جبل والهبوط إلى واد، أمامه ثورة أو بقرة أو عدة أغنام للرعي. قل يا سيدي تعايشت الناس مع ذلك الواقع، إكراماً للآباء والأهل، وبدرجة أقلُّ حباً في العلم.
أما إدام الخصاره والكدم – وأغلبها مخلوط من حبوب متنافرة – فمهروس البطاطا يُداس بأقدام الطهاة، فلم تكن الكهرباء ولا الخلاطات أو العجانات قد عرفت، ولذلك فإن الجود من الموجود، و”احمدوا الله يا عيال يافع”، حيث كل عشرة على (قروانه)، وهي كلمة تركية تعني الماعون الكبير، طبعاً لا يوجد حمّام واحد لخمسمائة طالب، وإنما يتمّ إطلاقهم كالقطيع في أوقات محدودة لينتشروا في الأرض لقضاء الحوائج، ومن حسن الحظ أنه كانت توجد أمام المدرسة برّية ملتفة الأشجار، ولك يا سيدي أن تتخيل الحالة الصحّية لهذا العدد المتراكم، حيث ينام في الغرفة العارية حوالي العشرين منهم يتمدّدون كحزم القمح، تعيش معهم وعليهم وفي ملابسهم ملايين الكتن والكتم (الأصغر حجماً)، وأما في البطون والأمعاء فالدود المتطاول كأنه الثعابين، التي كانت تعيش هي الأخرى – أي الثعابين – في مستودع العلف الخاص ببغال وحمير جنود الإمام الذين يحرسون المدرسة كأنما يحرسون سجن الرادع.
أنا آسف لذكر بعض الأمور في رمضان الكريم، حيث ينبغي الإشاره إلى كل ما يفتح شهية الصائم، ولكن مع الأسف الشديد فإنه لم يكن يوجد شيء من ذلك، وكما أن العبقرية اليمنية قد طوّرت الحُلبة كخط دفاع أول ضد اليبوسة، ولإصلاح المعدة، فإن الأوامر قد صدرت بأن يتم حفظ الطلاب بتجريعهم أسبوعياً شَربة (السنا) المكي، وهي أوراق خضراء ومجففة تُغلى في الماء، ومنقوعها لو شمّه الميّت لقفز من قبره. ومع ذلك سدّ منخريك، وأغمض عينيك، وتوكّل على الله، وأنت سالم غانم، أو أنك سترغم على ذلك بعد إكرامك بعدة خيزرانات، حيث الأساتذة لا يَرحمون، مع خالص الاحترام والمحبة لهم “من علّمني حرفاً صرت له عبداً”. لقد كانوا في ذلك صورة للحياة من حولهم، وربما وجدوا بعض ذواتهم الضائعة في إنزال العقوبات المغلّظة بالطلاب.
شَربة (السنا) هي مجمل الطبّ ومنتهى التطبيب، وعلاج كل مرض، وكان الطلاب يستجيـبون بحكم السن وأجهزة المناعة القوية، بل وفي الدرجة الأولى حبّ الحياة، ومع ذلك فقد مرض عديدون أمراضاً تمرّدت على (السّنا)، ولم يكن في قعطبة (المدينة) لا مستوصف ولا معلاج إلا ما كان من بعض المتطبّبين القدامى ممن يعالجون بالحجامة والكيّ والتعاويذ، وهؤلاء لم يكن هناك وثوق في حكمتهم، ولا في تشخيصهم أو تطبيقاتهم، وفي مختلف الأحوال فهذا الطب على بعضه لم يكن نافعاً لصغار السن دون العاشرة ممن لا يملكون شروى نقير، ولذلك كان الحل هو استقدام ذوي المريض من وراء الجبال ليأخذوا مريضهم الميؤوس من حالته، وكانت الأمهات بالغريزة يدركن أن تحسين نوعية الأكل من قبيل ذبح دجاجة على مرق وخبز وبر وشيء من السمن والعسل فيه الشفاء، وهذه الوصفة كانت ناجعة، ذلك أن الجوع كان يكمن في جذور كل مرض، شأنه شأن البرد التي يقول عنها المثل اليمني “ما علّة إلا وأبوها البرد”.
وكان يوجد حل آخر هو أخذ المريض إلى عدن، ويالها من عدن، فإن نظرة منها قبل الاستطباب تُشفي العليل، وإن لم يكن فعلى الأقل تسلّي قلبه بأضواء الكهرباء، وتدفّقات المياه في المنازل، واستخدام المواصلات الحديثة على طرق إسفلتية، إضافة إلى ضجيج البواخر والطائرات، وأسواق الخضروات والفواكه واللحوم والأسماك. كان القادم من الريف يقول: “أنا خلاص يا إخواني شبعت، ما أريد شي، المهم إن عيني شافت النعمة وتكحلت بها”. طبعاً المسكين يداري بكلامه خلو جيبه من أي نقد.
في عدن ذهبت إلى ابن منطقتي الإخصائي في الأذن والأنف والحنجرة من بريطانيا، العيادة كانت آية في الجمال والترتيب، ولكن عقل صاحبي لم يكن مرتباً، فقد رأى – والإستقلال يغمر البلد بالأحلام الجميلة – أن كثيرين قد ارتقوا مناصب ذات خطر وهيلمان دون تأهيل – فقرر أن يخوض المعمعة بعيداً عن الطب، كنت أكلّمه عن أنفي الذي ينزف، وهو يقول لي: “بعدين…بعدين، هذه بسيطة، خلينا نشوف هذه الدواهي ونروح معاهم في داهية”. وهكذا أخذ يفصّل على نفسه المناصب، يرفض هذه الوزارة، ويتأفف من تلك، حتى استقر رأيه – أخيراً – على أنه لن يرضى عن الخارجية بديلاً، فنصف عمره قد ضاع في الخارج. قل يا سيدي خرجت من العيادة وودّعته دون أن ينتبه للأمر الذي جئت من أجله، وصلت البيت قلت لهم: “فوّروا (اغلوا) شَربة (سناء).
ورعى الله قعطبة وأيامها.
تعديل بتاريخ 12 أغسطس 2016
بعد قرائة المقال على مسامع العم صلاح محمد النقيب وهو ممن درس في نفس المدرسة عام 1954 – 1955 تذكر اسماء مدرسين المدرسة. قررت ذكر الأسماء احتراماً لمن بذل جهده لتعليم الناس الققراء في تلك المرحلة ورحم الله من كان منهم ميتاً.
- الأستاذ عبدالله المساجدي – مدير المدرسة من بني مطر
- الأستاذ حسين السريع مدير ثاني من بني مطر
- الأستاذ قاسم المصباحي من تعز
- الأستاذ احمد قُنبع من بني مطر
- الأستاذ عبدالله الحضرمي من بني مطر
- الأستاذ محمد الثور من بني مطر
- الأستاذ محمد عبده من قعطبة
- الأستاذ عبدالله صادق أمين من قعطبة