عبدالرحمن عبدالله إبراهيم

د . عبدالرحمن إبراهيم
د . عبدالرحمن إبراهيم

لم يكن الدكتور عبدالرحمن عبدالله إبراهيم الذي توفي في عدن عن 67 عاماً كانت السنوات الأخيرة منها معاناة متصلة مع المرض الذي أقعده في شقته المتواضعة بالتواهي الخالية من الأثاث تقريباً سوى ما تيسّر، شاهدةً على يدٍ طاهرة وقناعة صارمة وزهد من بهرج الحياة. وكان الرجل منذ عرفته في مطلع السبعينيات من القرن الماضي بعيداً جداً جداً عن التعلّق بمتعلّقات الدنيا على الرغم من المناصب الرفيعة التي شغلها منذ حصوله على الدكتوراة في (القانون الدولي) من جمهورية المجر 1968.

أقول لم يكن الراحل العزيز من عشّاق الأضواء، ولا من هواة التنطّع والمفاخرات الكلامية الفارغة، فقد كان في العمل الوطني أحد الصّامتين الكبار، يعمل بدأب دون أن ينتظر جزاء ولا شكوراً، وكان له إسهامه المرموق في تأسيس إتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين واستمراريته، وفي تأسيس حزب التجمّع الوحدوي اليمني عقب الوحدة، وإدارة صحيفته.

ورغم انشغالاته فلم يكن يغيب أو يتخلّف عن اللقاءات الاجتماعية لأصدقائه يشاركهم المرح ويصرف ما في جيبه حتى آخر فلس، لذلك ظلّ جيبه فارغاً على الدوام ولله الحمد، وكان من عزّة النفس وسموّ الروح بحيث لا يُطلِع أحداً على حقيقة حاله، وإذا حاولت معه يضحك بجذل وتلمع عيناه الذكيّتان وهو يصدّك برفق قائلاً: “إن خير الله باسط”. لقد كان من أولئك الذين يحبّهم الله تعالى ويحبّهم الناس {من الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم}.

كان غنياً بنفسه وبزهده وبصداقاته، وكم له من أيادٍ بيضاء يفعلها كأنه لم يفعلها ويقولها كأنه لم يقلها. ولم يفكر أبداً – وما ينبغي له – في البحث عن مصدر دخل إضافي أو الهجرة أو تحويل بندقيته من كتف إلى كتف ابتغاء مصلحة أو شهرة أو جاه. كان ناصعاً كالصّباح الضحوك، نقياً كحبة اللؤلؤ، عفّ اللسان، قد ينام على الطوى حتى يجد كريم المأكل.

أما أصدقاؤه فمن غِمار الناس والبسطاء الذين لحقتهم حرفة الكتابة وعشق الحرف، فهم في ضنك من العيش، يتساندون حتى لا يتساقطوا واحداً تلو الآخر، وكلما رؤوا نموذج الدكتور اشتدّت عزائمهم واستقووا على أوضاعهم، وزادوا من نسبة تشاركهم في الهموم التي كانوا يرضون بها وهي لا ترضى بهم ولا ترضى عنهم. وهذه الأماثيل موجودة ومتوفّرة بكثرة في أوساط أدباء اليمن وصحفييه “السمعة ما شاء الله والعشاء قليّة”.

هي ضريبة الكلمة الشريفة، والموقف الصادق، والإنصراف إلى تحصيل المعرفة ومعاناة الناس بالناس من أجل الناس. وكان “المايسترو” عمر الجاوي رفيق درب الدكتور، حيث يتبادلان الإلهام ويستعتبان على المقادير بالنكتة وحب الناس والنظر إلى الأزهار الجميلة من الشباب التي تنمو هنا وهناك، وفيها من الجمال والعظمة والأمل ما يُزري بمآدب القدم وقصورهم ووسائل نقلهم التي تكلّف الملايين. كان عمر ينظر للتخلي عن الملذات والزهر في مغريات الدنيا وهو يردد: “ما مُعين الضنى عليّ أعنّي على الضنى”. ارتبط ابن عبدالله إبراهيم بعدن عموماً والتواهي على وجه الخصوص ارتباط الرضيع بثدي أمه، وفي المرض الذي أقعده وألزمه البيت والفراش، كانت متعته الوحيدة الجلوس على كرسي أمام شباك في شقته مطل على ميدان التواهي، ونادي شباب التواهي، وجانب من البحر الذي كان عشقه اليومي يراقب الحركة، وكان ذلك يكفيه زادٌ للروح، حين عزّ الصديق ورحل الرفيق وجفّ الناس، ذلك أن بلدنا – وللأسف الشديد – لم تتأسس فيها إلى الآن تقاليد المواساة، وتفقّد الغائب المريض، والنازح الغريب، فحين يكون المرء في قلب دائرة الضوء يحيط به محبّوه كالفراشات، وحين ينسحب إلى الظل ينسحبون إلى العتمة، فلا يكادون يبينون أو يستبينون، إلا من رحم ربي. لقد حرصت على زيارة الدكتور كلما ذهبت إلى عدن لكأنني أزور مكارم الأخلاق، فلم أسمعه يشتكي رغم قسوة المرض، وكان صديقنا المشترك الإنسان البديع أحمد كلز يأتي خصيصاً من صنعاء ليقضي يوماً أو بعض يوم مع الدكتور… رحم الله عبدالرحمن عبدالله إبراهيم وغفر له وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله ومحبّيه الصبر والسلوان… وإنا لله وإنا إليه راجعون.

اترك تعليقًا