وداعاً حبّة القلب

BookShopكلمات العنوان هي الجملة التي ودعت بها كاثي كوستين – آخر أمين لمكتبة المركز الثقافي البريطاني بالقاهرة – مكتبتها الأثيرة، بعد أن أطفأت الشمعة الأخيرة قبل أن تُغلق بابها لآخرة مرة وإلى الأبد، وكان السيد بول سميث مدير المركز قد أعلن هذا القرار الثلاثاء الماضي بسبب عدم الجدوى، وقلّة الروّاد الذين لا يزيدون عن ألفي شخص في السنة في بلد تعداده يقـترب من 80 مليوناً، وأغلبية هذا “العدم” لا يأتون للقراءة أو استعارة الكتب، وإنما من أجل خاطر الإنترنت وتطبيقاته.

وفي مثل هذا التصحّر الثقافي، والجفوة المعرفية، والقطيعة بين الكتب والقراء المُفترضين، وجد القائمون على المكتبة أنه من باب المكابرة والضحك على النفس إبقاء ذلك الصرح مفتوحاً بعد أن أثرى الحياة الثقافية والأكاديمية لمدة 75 عاماً، فقد آن له أن يتقاعد في ذاكرة النسيان، لتوفير ما يمكن توفيره، ولأنه ما من أحد يتسطيع أن يُقرئ الناس رغماً عنهم، أو أن يُجرّعهم الثقافة بالملعقة، كما هو الحال مع الأطفال الذين يتم تجريعهم الدواء حتى وإن عافته نفوسهم.

وكالعادة، وكما هو الحال قبل دفن أي عزيز، فقد فاضت عُيون كثيرة بالدمع، ليس على المبنى وحجاره – في تقديري – وإنما على الذات التي تدرك في لحظة فاصلة أن زمن التراجع المعرفي وانطفاء أنوار حضارة الكلمة قد سرق الروح منها وهي تلهث وراء رغيف الخبز، و”الشعلقة” المُخجلة في وسائل النقل العام، والتركيز تجنباً للتعثر بأكوام القمامة، أو حفر الشوارع، أو الوقوع في بالوعة مفتوحة فاغرةٍ فاها بلا رقيب ولا حسيب، وكما تم استلابها من قبل الفضائيات التي تتوجه إلى الغرائز الدنيا، وتسطّح المعرفة، حيث يجري تعليبها على عجل كالساندويتشات الباردة في محطّات القطارات، ومكائن البيع في الأماكن التي تشهد ازدهاراً بشرياً على مدار الساعة، ليجري بلعها من أجل حفظ الرمق دون أن يكون لها طعمٌ أو رائحة.

إذا كان هذا حال مصر، وهي الرائدة أم الكتّاب العظام، بلغة الضاد، وراعية الكتاب، وفيها أعرق الجامعات، ولها الغلبة السكانية عربياً، فكيف بالبقية ممن هم أقصر قامة وأقل عدة وعتاداً؟ وسيكون من باب تحقير النفس أن نتباكى، لأن الواقع أقسى وأمرّ، وأنشج من أي بكاء.

إننا نتحدث عن إشراقة حضارة عربية جديدة، ننتظرها كما ينتظر اليتيم المغلوب على أمره هدايا العيد من جيرانه البخلاء الغلاظ، فمن أين ستأتي هذه الحضارة إذا كان الكتاب – وهو بوّابتها الأولى – مُذلاً ومُهانا؟ وبالتالي فإن هذا حتماً سينسحب على الفكر والتأليف، فالكاتب حين يُقبل على الكتابة إنما يضع نصب عينيه قارئاً حتى وإن لم يكن يراه، فإذا اتضح له من خلال التوزيع أن لا وجود لقارئ إلا اللمم، ترك أشرعته للريح ليتحطّم مركبه على أول صخرة معترضة، وكفى الله المؤمنين شر الكتابة.

ولقد حاول السيد بول سميث أن يجد أعذاراً للناس في انصرافهم عن القراءة من قبيل الإزدحام المُرهق، لكنها كانت أعذاراً ينطبق عليها المثل “عذرٌ أقبح من ذنب”، لكأنما كان يُواسي نفسه، ويُداري حُلمه الجميل – الذي صوّح الواقع أشجاره الخضراء – وليُرضي أولئك النفر من ذوي القلوب الكسيرة الذين تجمّعوا أمام مكتبة المركز الثقافي البريطاني الواقعة في حيّ العجوزة، تطلّ على النيل الخالد، ليشهدوا النهاية، ولو التفت إلى النيل وكل نيلٍ أو نُهيرٍ في وطننا العربي، لوجدها تبكي حالها، شأنها شأن الكتب المُهملة، فلم يَعُد أحدٌ يستلهمها الخيال والجمال، ويربط ينابيعها بينابيع الشعر:

من أيّ عهدٍ في القرى تتدفق=وبأي كف في المدائن تغدق

ويا شراعاً بماء دجلة يجري… الخ، الأنهار العربية اليوم ظمأى تنتظر كاثي كوستين لتُغلق مجاريها بعد أن تُطفئ أمام جريانها شمعة الوداع الأخيرة.

إن أمة (اقرأ) لا تقرأ إلا ما كان من قبيل كُتيّبات الشعوذة والطلاسم وعذاب القبر، وكتب الطبخ، وهذر الفن الهابط، والفنانات الكاسيات العاريات اللاتي يستعرضن مواهبهنّ الإغرائية وضحالتهنّ الذهنية.

في عدن، على طفولتي وطفولة جيلي، وفي زمن الإحتلال، كانت مكتبة (ليك) في الخليج الأمامي بكريتر في بقعة هادئة تُدعى (البجيشة)، وكانت حركة الشباب والأطفال دائبة إلى ذلك الحرم، المحتوي على المزيج من الكتب العربية والإنجليزية، والإستعارة على قدمٍ وساق، وقد فكّرت البلدية في توزيع الكتب وإعارتها لسُكان الأحياء البعيدة، تسهيلاً عليهم، فاشترت سيّارتين لهذا الغرض، ونجحت الفكرة، فالقراءة إذاً ليست بـ “العصا لمن عصى”، وإنما هي غرسٌ مع الطفولة، ورعاية وتشجيعٌ وتحفيزٌ غير مباشر، وشعبٌ لا يقرأ كَتَبَ على نفسه الجهل والذلة والمسكنة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s