“إرَمَ ذاتِ العِمَاد” …

EramThatAlEmadفي كُتب الأقدمين أحاديث مما يبدو لنا اليوم من بَناتِ الخيال، وثمار الأساطير الأولى، حين كان العقل الإنساني في طفولته قابلاً للخوارق، عميق الإيمان بالمعجزات، مُنفتحاً على الدهشة الكونيّة العظمى، حيثُ يتجلّى الخالق في بديع صنعه، والإنسان لا يَطال (الماوراء) سوى باللايقين، وببناء نماذج في العقل، أو على الأرض، تُجسِّد رؤاه وأحلامه، وتصوّره للمكان الذي جاء منه في بدء الخلق، وهذا ما يجعله يطمئنّ إلى أنه ما زال على صلة بالنبع الأعظم، منه أتى وإليه يؤوب. ومن ذلك القصص ما رواها الشعبي في كتابه (سير الملوك)، من أن شدّاد بن عاد ملك جميع الدنيا، وكان قومه ذوي بسطة في الأجسام، وأولي قوة حتى قالوا: “من أشد منا قوّة؟”، قال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة}.

منطق مفعم بالمصنوع، ويستعصي على الصانع، والمخلوق لا يبز الخالق، وقد بعث الله تعالى إليهم هوداً – عليه السلام – نبيّا، فقال له شدّاد: “إن آمنت بإلهك فماذا لي عنده؟” قال: “يعطيك في الآخرة جنة مبنية من ذهب، ويواقيت ولؤلؤاً”، قال شدّاد: “أنا أبني مثل هذه الجنة، ولا أحتاج إلى ما تعدني به”.

كان ذلك هو التحدي الذي يقتضي رداً ساحقاً ماحقاً، تستقرّ معه نواميس التراتبية، وقوانين المانع والممنوع، والعابد والمعبود، لكنّ الرد لن يُفعّل إلا حين اكتمال البناء.

أمر شداد ألف أمير من جبابرة عاد لطلب أرض واسعة كثيرة الماء، طيّبة الهواء، بعيدة عن الجبال، ليبني فيها مدينة من ذهب، وقد سار الأمراء في الأرض حتى وصلوا إلى جبل (عدن)، فرأوا هناك أرضاً واسعة طيّبة الهواء، بعيدة عن الجبال، فأمروا المهندسين والبنائين، فخطّوا مدينة مُربعة الجوانب، دورها أربعون فرسخاً، من كل جهة عشرة فراسخ، فحفروا الأساس إلى الماء، وبنوا الجدران بحجارة  الجزع اليماني، ثم أحاطوا بها سوراً ارتفاعه خمسمائة ذراع، غشّوها بصفائح الفضة المموّهة بالذهب، فلا يكاد يدركه البصر إذا أشرقت الشمس.

وكان شداد قد بعث إلى جميع مناجم الدنيا، فاستخرج منها الذهب، واتّخذ لبناً (طابوق)، ولم يترك في يد أحد من الناس في جميع الدنيا شيئاً من الذهب إلا غَصَبَه، واستخرج الكنوز المدفونة، ثم بنى داخل المدينة مائة ألف قصر، بعدد رؤساء مملكته، كل قصر على عُمَد من أنواع الزبرجد واليواقيت معقودة بالذهب، طول كل عمود مائة ذراع، وأجرى في وسطها أنهاراً، وعمل منها جداول لتلك القصور، وجعل حصاها من الذهب والجواهر واليواقيت، وحلّى قصورها بصفائح الذهب والفضة، وجعل على حافات الأنهار أنواع الأشجار، جُذوعها من الذهب، وأوراقها وثمرها من أنواع الزبرجد واليواقيت والّآلئ، وطلى حيطانها بالمسك والعنبر، وجعل فيها جنة مزخرفة له، ونَصَبَ عليها أنواع الطيور المسموع من الصادح والمغرّد، ثم بنى حول المدينة مائة ألف منارة برسم الحرّاس، فلما كمل البناء، أمر في مشارق الأرض ومغاربها أن يتخذوا بسطاً وستوراً وفرشاً من أنواع الحرير لتلك القصور والغرف، وأمر باتخاذ أواني الذهب والفضة، فلما فرغوا من ذلك جميعه خرج شداد من حضرموت إلى أهل مملكته وقصد مدينة إرم ذات العماد، فلما أراد دخولها أمر الله تعالى ملكاً فصاح بهم صيحة الغضب، فقبض ملك الموت أرواحهم في طرفة عين، فخرّوا على وجوههم صرعى، وأخفى الله عز وجل تلك المدينة عن أعين الناس، فكانوا يرون في الليل في تلك البرية معادن الذهب والفضة، واليواقيت تضيء كالمصابيح، فإذا وصلوا إليها لم يجدوا هُناك شيئاً.

بغض النظر عن التفاصيل المرتبطة عموماً بوصف الجنة وعمرانها، أكانت جنة الله تعالى التي عرضها السماوات والأرض، أم جنان البشر المتألهين من الجبابرة الذين يُسخّرون الناس للقيام بأعمال إنشائية كبرى، يُحاولون التفوّق عبرها على من سبقوهم – وهم كثر في تاريخ الحضارات – ومازالت شواهد بعض أعمالهم قائمة في مصر ووادي الرافدين وفي الصين والهند وفي آثار روما وفي حضارات أمريكا الجنوبية، كما أن عصرنا يزخر بُمنشآت هائلة الضخامة، كالسدود والجسور وناطحات السحاب والجزر الصناعية في البحار، بل وانتقل الأمر إلى الفضاء، حيث تُبنى المحطة الدولية بمائة مليار دولار، والآتي أعظم.

إذاً لا غرابة أن بني قوم عاد إحدى آيات عصرهم في إرم، التي يبحث عنها عُلماء آثار كثيرون، ينخلون رمال الصحراء لعلّهم يجدون لها أثراً، بعد أن ورد ذكرها في القرآن الكريم مقروناً بقُدرة الله العظمى على محق ما بُني وشيّد لصرف الناس عن الإيمان به {ألم تر كيف فعل ربّك بعاد إرم ذاتِ العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد}.

ولعل هذه الآيات وما علق في الذاكرة الجمعيّة من تاريخ شفاهي للحضارات البائدة، قد كانت وراء تسجيل تفاصيل تبدو غير تاريخية، وتلك من تجليّات آليات الإبهار والتزيّد، ومواءمة الحادث للحديث، وسد أي ثغرات في الرواية، لتبدو على الدوام مُكتملة الأركان، بعد أن وثّقت على الورق، ومع ذلك فلا دخان من غير نار، فلا بد لكل أسطورة من أصل في الواقع، لأنها لا تأتي من فراغ، ولا تذهب في فراغ، وقد قيلت مثل هذه الأوصاف في مأرب وجنّتيها وسدّها وقصورها، وبأقلام مؤرخين من غير اليمن، والفرق أن مأرب لها وجودٌ آثاريّ، وإن لم يكشف من خباياه سوى القليل، وهوما نفتقده بالنسبة لإرم ذات العماد حتى اللحظة.

ولعل أو ناقد للرواية كان مُعاوية بن أبي سفيان، الذي قال لعبدالله بن قلابة الأنصاري، الذي ادّعى رؤية إرم، ووصفها، فقال له مُعاوية: “في اليقظة رأيتها أم في المنام؟”. ونفى ابن خلدون وجودها على ضوء مُقارباته العقلانية في العمران والحضارة. أمّا أحمد فضل القمندان في كتابة (هديّة الزمن)، فاتخذ موقفاً وسطاً بين التاريخ الأسطوري المُجسّد في (الجريمة والعقاب)، وبين المُعطى التاريخ المتصل بقوم عاد، وقدرتهم على العمران، كما هُو شأن الفراعنة بُناة الأهرام، والصّينيين بُناة السور العظيم.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s