
في محاضرة له بمكتبة الإسكندرية، التي كانت أحد أبرز رموز المعرفة والتنوير، وملاذ العلماء والباحثين في فجر الحضارة، حين اكتشف فلاسفة اليونان مركزية العقل في فهم الكون والإحاطة بأسراره، وكذلك سبر النفس الإنسانية وأغوارها، حذر الدكتور أحمد زويل المصريين من فُقدان الأمل في المستقبل قائلاً: “إن فُقدانه كارثة، لأنه بدون الأمل لن تتطور مصر أو تتقدّم”.
ومن الواضح والجلي أن ما ينطبق على مصر مُخففاً ينطبق على باقي الأقطار العربية مغلّظاً، فمصر بموروثها الحضاري الضارب، وإطلالتها المبكّرة على الحضارة الحديثة، ومنجزاتها منذ مطلع القرن التاسع عشر، وبكتلتها السكانية الكبيرة، وما تفرزه من تحديات، لا يعدّ الأمل بالنسبة لها ترفاً أو خياراً بين خيارات، وإنما هو ضرورة وجود “أن تكون أو لا تكون”.
أما أغلب الأقطار العربية السادرة هي الأخرى في سبات حضاري عميق، تستيقظ ساعة لتنام عشر ساعات، فإنها تعتقد واهمة أن أمامها متسعاً من الوقت لتلعب بين الحداثة وتكايا الماضي، وبين النقل والعقل، وبين الشعوذة والعلم، ولن تحسن أمرها في الزمن المنظور إلا إذا خطت مصر خطوة ثورية عاصفة، وقدمت النموذج، فمنذ كبت مصر وانكفأت على نفسها تشظّى الأمل، وانطفأت مصابيحه في بلاد العرب، إلا من ومضات تلمع هُنا وهناك دون أن تشكّل منظومة فاعلة بقوة دفع ذاتي تؤمن لها طاقة الديمومة والتجدد والإبداع.
ومن هذا المنظور فإن مسؤولية مصر مضاعفة، وهذا قدرها الذي لا مهرب منه، وفي تقديري أن الدكتور زويل لم يشأ أن يصدم مستمعيه بتأكيد أن “فقدان الأمل” قد أصبح هو القاعدة، وما عداه استثناء، إلا إذا حدثت معجزة – في زمن بخيل بالمعجزات – تأتي من وراء الغيب لتوقظ الأموات، وإن بدوا في حسابات القراطيس والسجلات أحياءً يرزقون. لقد اتبع في محاضرته المثل القائل “لأن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام”، وقد لفت إلى أن الأموال والموارد تأتي وتذهب، لكن العامل البشري هو القاسم المشترك الأعظم، مشيراً إلى أن مصر تتوفر على نخبة من الكوادر المتميزة داخلها وفي الخارج.
والسؤال هنا – وهو ليس يرسم مصر لوحدها – دائماً موجه إلى العرب بين الماء والماء: “هل تعي الحُكومات وأولياء الأمور وأهل الحل والعقد أهمية توظيف الكفاءات، وإعداد البيئة المناسبة للعلم والتكنولوجيا وأن يتم الإستثمار في هذا الإتجاه كهدف استراتيجي بعيد المدى له محدّدات وأساليب قياس ووسائل تواصل مع العالم المتقدّم؟”. ومن نافل القول التأكيد على أن الجهدٍ العربي المنسّق ستكون له مردودات أعظم، وسيختصر الزمن، ويجود بالمعرفة، ويوسع قاعدة البحث ومجالات الإختراع والتطبيق والتجريب المستمرّ، ذلك أن العقل البشري علم مجرد، والمعلّم عقل مجسّد، وإذا تعاملنا مع هذه الهبة الربّانية التي أعطيت للبشر دون العالمين – في إطار المحرّمات والحجر السائد حالياً، حيث الإبداع تهمة، والمبدع الباحث المجتهد خارج على الجماعة – فإننا بذلك نكون قد أطفأنا نور الله تعالى في نفوسنا وحياتنا ومكانتنا المفترضة بين الأمم.
وما من شك أن النظر العقلي والإجتهاد المعرف والنزوع العلمي يحيط به قدر من القصور، وتشوبه شوائب من اختلافات الناس فيما يأخذون وما يتركون، لكنّ ذلك هو من صميم الكينونة البشرية، حيث لا يكون الحل بغلق الأبواب والنوافذ، وإنما بفتح المزيد منها، فالتجربة والخطأ هما الطريق إلى الصواب، أما الكمال فلله تعالى وحده.
وقد شدّد الدكتور زويل – الحائز على جائزة نوبل، حيث تمكّن من عبور حدود الزمن للتحكّم فيه إلى درجة (الفيمتوثانية)، وهي جزء من مليار مليون جزء من الثانية الواحدة، والتي تمكّن من رؤية التفاعلات الذريّة بتفاصيلها الدقيقة، التي كانت قبل زويل بين ضروب المُستحيلات – على أن يكون التعليم المدرسي ملائماً للقدرات، وأن يُخاطب العقل، ويُواكب العصر، بحيث لا يعتمد على الحشو المعلوماتي، مع السعي المُبرمج لاكتشاف المواهب ورعايتها.
وخلص إلى أن حل مشكلة التعليم لا يكون بإنشاء المدارس والجامعات الخاصة، وإنما من خلال رؤية شمولية تشمل الرفع من شأن المدرسين وانتقاء المتميّزين منهم، وأكد أنه لا يوجد تعارض بين الدين والعلم، لافتاً إلى أنه من خلال متابعته لما يجري في مصر يرى أنها تعيش حالياً حالة من الجمود والتحجّر وضبابية الرؤية حول حريّة الإبداع، كما انتقد تضييع أوقات الشباب وطاقاته في النزاع حول الأيديولوجيات بدلاً من الحديث عن تسابق شباب العالم من العُلماء للوصول إلى المريخ، أو تحقيق تقدم علمي وتكنولوجي للحاق بركب التقدّم.
في ضوء كلام زويل يبدو أن أولوية الأولويات للحُكومات العربية – الراشد منها والفاسد – هي زراعة الأمل، على أن لا يكون ذلك في الهواء، وإنما في تربة خصبة وفعل يسابق القول، أما زراعة اليأس فقد شربنا كؤوسها حتى الثمالة…
رجاءً، غيّروا زاوية النظر.