الانقراض!!

نعى «علي مُحمَّد سعيد»، «أدونيس»، الحضارة العربية التي قال، في مُحاضرةٍ له

بكُردستان العراق، إنَّها دخلت طور الانقراض، لأنَّ الطاقة الخلاَّقة لدى العرب قد

انتهت ولم يَعُدْ لهم حُضورٌ مُبدعٌ في الثقافة الحديثة الكونية، مُشيراً إلى أنَّ

الحضارات الكُبرى، من السُّومريين إلى البابليين إلى الفراعنة، قد انقرضت حين

اكتملت دورة الإبداع لديها.

ولسنا نُخالف الرَّجُل في مسألة نشوء وانهيار

الحضارات، ذلك أنَّ لكُلّ أجلٍ كتاب، وقد قال بذلك «ابن خلدون» في مُقدِّمته

و«تُوينبي» في تاريخه و«ماركس» في فلسفته، وربّ العالمين في قُرآنه : «وَتِلْكَ

الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا

وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِيْنَ»، ولكنَّ

الأمر اللاَّفت أنَّ «أدونيس» قد حثَّ الأكراد على تجنُّب الانقراض إذا ما حذوا حذو

العرب، وهذا يعني أنَّ هُناك طُرقاً ووسائل للإفلات من سكِّين التاريخ المشحوذة على

رقاب الحضارات، وأنَّ الإنسان هُو الفاعل الأكبر في تقرير المصائر ودحر المجازر،

لذلك فإنَّ تحريره من ربقة العُبودية والصنمية والتشيُّؤ هُو المُهمَّة الأُولى

للنُّخبة التي تتصدَّر المُتعلقِّين بحبال الأمل من أجل الخُروج من مُستنقع

العدم.

ويُوضِّح «أدونيس» بالقول : «لو اجتمع الأمريكي والأُوروبِّي والعربي على

طاولةٍ واحدة، تُرى ماذا يُمكن أن يُقدِّمه العربي؟»، ويُجيب : «لا شيء»، وأعتقدُ

أنَّه يقصد الزخم الحضاري الجماعي المُتجانس، لأنَّه على مُستوى الأفراد هُناك

الكثيرون ممَّن لديهم الكثير لتقديمه، ولكنَّ النسق غائب، وغالباً ما يكون هؤلاء

ضمن نسيج أُممٍ أُخرى تعلو بها مراتب الحضارة، إلاَّ ما كان من جنس الأدب وسُداة

اللُّغة، فإنَّه يمكث في أرضه وينتسب إلى شعبه.

وفيما انتقد «أدونيس» الوسط

الثقافي العربي، لأنَّه ينتمي إلى ثقافةٍ مُؤسَّساتيةٍ تخدم السُّلطة، وبالتالي فهي

ليست حُرَّةً ومُستقلَّة، إلاَّ أنَّه، ضمناً، يُعوِّل كثيراً على المُؤسَّسات،

وكأنَّ إصلاحها هُو الذي سينتشل الثقافة من مُستنقع الرذائل الطائفية والقبلية

والشللية والانتهازية، علماً أنَّ الإبداع الفكري يقدح من عُقول النوابغ، والإبداع

العلمي شراكةٌ لها قيادةٌ ومناخٌ يصلح لزراعة العلم وتحبيبه إلى الناشئة بدءاً قبل

أن يُصبح صناعةً مُجتمعية، أمَّا وزارات الثقافة وما أشبه ممَّن نُوسعهم نقداً

وقدحاً ونُطالبهم بما ليس لديهم، فإنَّها، في أحسن الأحوال، تقوم بدور شُرطي

المُرور الذي يُنسِّق الحركة ويُوجِّهها إلى مظانّها، أمَّا صناعة السيَّارات

وإدامتها، فليست من اختصاص ذلك الشُّرطي الواقف تحت لهيب الشمس صيفاً وزمهرير البرد

شتاءً، وليس له من الربيع والخريف إلاَّ ما للغريب العابر.

الأُمَّة اليوم

تتقاتل في سُوح التاريخ وليس على مسرح الحاضر، وقد ابتُليت بالجدل الفارغ وجيَّرت

حيِّز العمل لصالح حيِّز الكلام والتنابز بالألقاب.

إنَّ التاريخ لم يصل إلى

جيلنا مُصفَّىً ومُمحَّصاً على نيران العُقول النابهة، وإنَّما وصلنا مشوباً

بالأكدار، حمَّال أوجه، والعُملة الرديئة منه قد طردت العُملة الجيِّدة من سُوق

التداول.

إنَّنا نعيش في «صِفِّيْن» و«الجَمَل» وملك بني أُميَّة والعبَّاسيين

ودُول وملوك الطوائف بالأندلس، والخطّ الهمايوني للباب العالي في اسطنبول، الأموات

يحكموننا من داخل قُبورهم، ولهم وكلاء وأولياء وأدعياء في كُلِّ زاوية.

وَمَنْ

يُتابع الدعاوى الكيدية والابتزازية التي تُرفع على الأدباء في مصر – مثلاً –

سيكتشف أنَّنا أُمَّةٌ تتقهقر، وشعبٌ بحمد اللَّه يمشي إلى الوراء، فكمِّيَّة

الحُرِّيَّة المُتاحة أمام المُبدع هي قُيودٌ أكثر منها حُدود، وقد عبَّر عن ذلك

المُبدع الراحل الدُّكتور «يُوسف إدريس» حين صرَّح : «إنَّ الحُرِّيَّة المُتاحة في

الوطن العربي بأسره لا تكفي كاتباً واحداً».

حتَّى الذين يهربون إلى الغرب، تظلّ

تُطاردهم أشباح الوطن ويجدون أنفسهم غُرباء كشجرةٍ اجتُثَّت من جُذورها، لذلك إمَّا

أن ينقرضوا تبعاً لرُؤية «أدونيس»، أو يعودوا وقد لزموا الصمت واتَّخذوا التقيَّة

منهجاً.

العلاج؟ لا يُوجد علاج، وإنَّما على النُّخبة أن تُواصل تحدِّيها لقوى

الظلام، وأن تدفع الثمن من حُرِّيَّتها وأرزاقها وأمنها، وبدُون ذلك فلتذهب إلى

الانقراض غير مأسوفٍ عليها.

اترك تعليقًا