رشيد جرهوم…

رشيد جرهوم
رشيد جرهوم

انتقل إلى رحمة اللَّه تعالى بالأُردن. فقيد الوطن اللِّواء رشيد جرهوم، رئيس مصلحة الأحوال المدنية والسجلّ المدني، وكان قد أجرى في عمَّان عملية زرع كليةٍ تبرَّع بها أخوه الأُستاذ مُحمَّد أحمد جرهوم، وزير الإعلام الأسبق.

عرفتُ الفقيد مثالاً للسماحة والاستقامة وعزَّة النفس والتواضع الجمّ بالقول والفعل، وفي سيمائه يتبدَّى النُّبل ودماثة الخُلق ولين الجانب، لكأنَّ وجهه مرآةٌ لرُوحه، ولكأنَّ أخلاقه ثمارٌ زكيَّةٌ لشجرةٍ طيِّبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، وكان إلى ذلك رَجُل مواقف صُلبٍ لا ينصاع للهوى ولا يسير خلف الخائضين بلا علمٍ في الحياة العامَّة والسياسية ممَّن يُبدِّلون وجوههم جرياً على ترمومتر المصالح أو استجابةً لنوازع التحكُّم والاستئثار وتبادل المنافع وتسخير الأعمال العامَّة للمنافع الخاصَّة.

كان ذلك النسيج البديع المُتناغم من التواضع والكبرياء، من الإصغاء والاحتفاظ باستقلال الرأي، من العمل المُخلص الدؤوب والحازم، وإلزام النفس بتوقير الآخرين والأخذ بأيديهم عن محبَّةٍ وتفهُّمٍ وإنسانية، قليل الكلام، بالغ الأفعال، لا يتهرَّب من واجب، ولا يُفرِّط في حقّ، إلاَّ ما كان يخصُّه حين يرى أُناساً يتهافتون على الغثّ والسمين وعلى الفُتات، غير مُبالين بكراماتهم، فإنَّ نفسه تعاف مثل هذه التسلُّكات والتسلُّقات، فينأى عن هذه المَواطن بهُدوءٍ دُون أن ينسب نفسه إلى التضحية أو يدَّعي البُطولة فيما أخذ أو ترك، وتلك من شِيَم الكرام الذين تسمو بهم الحياة وتعلو بهم المعالي ويقتدي بهم طُلاَّب الفضيلة والحياة القانعة من أُولئك الذين قال فيهم المولى عزَّ وجلَّ : «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِيْنَ يَمْشُوْنَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوْا سَلاَمَا»، «وَالَّذِيْنَ لا يَشْهَدُوْنَ الزُّوْرَ وَإِذَا مَرُّوْا بِاللَّغْوِ مَرُّوْا كِرَامَا».

وعلى كثرة ما سمعنا ونسمع عن التفريط في أخلاقيات العمل واستغلال المناصب وتعطيل مصالح الناس للتربُّح والتجبُّر وتعويض الشُّعور بالنقص والدُّونية، فلم أسمع عن رشيد جرهوم إلاَّ الكَلِم الطيِّب والثناء العاطر والإشادة بمناقبه عبر كُلّ المسؤوليات التي تولَّى أمانتها وأوفى حقّها.
قضيتُ مع الفقيد وقتاً طيِّباً خلال زيارةٍ له إلى أبو ظبي، وكانت تلك هي المرَّة الأُولى التي أتعرَّف فيها إليه مُعاينةً «من الوجه للصُّورة»، وإن كُنت أسمعُ عنه كأنَّني أُعايشه، ومُنذُ اللَّحظة الأُولى شعرتُ أنَّه من ذلك النوع الذي لا تملك إلاَّ أن تحبّه وأن تأنس إليه وتثق بنواياه وتُنصت إلى آرائه، كان حصيفاً موزوناً على بصيرة، وكان هيِّناً ليِّناً عاذراً للناس في نظرته إليهم وفي تقويماته وتصويباته، وكان مُدركاً لتعقيدات الواقع وتضارب المصالح وما ينتج عنها من رُؤى مُختلفةٍ إن صدرت عن العُقلاء المُخلصين أثمرت وأسعدت، وإن رَشَحَت عن الجَهَلَة المُغرضين دمَّرت وأتعست، وكان يُدرك تماماً أنَّ المرء قد يُحلِّق بخيالاته وأحلامه وأوهامه، فيطلب المُستحيل أو ينشد المثال بعيد المنال أو يتغيَّا ما يتمنَّى ولا يُبالي، لكنَّ عليه دائماً أن ينتبه إلى موقع قدمه على الأرض من حيثُ ينطلق لا من حيثُ يُحلِّق في السماوات العُلا، فهذان عالمان مُتوازيان لا ينبغي أن يتناقضا حدَّ القطيعة ولا أن يتطابقا حدَّ امَّحاء الحُدود وضياع الفواصل، فلا يكون هُناك أملٌ ولا عملٌ إلاَّ أضغاث أحلام.

وكان بيننا ثالثٌ لا أُسمِّيه من جماعة «الأسود والأبيض»، أصحاب «حبَّتي أو الديك»، فلم يَرُق له حديث العقل القادم من حصاد التجارب والخيبات وحُدود الإنسان المُمكنة الموسومة بالنقص، حيثُ الكمال للَّه تعالى وحده، فأخذ صاحبنا يلوي عُنق الحديث ويقطع تسلسل الأفكار ويحول بيننا وبين تأمُّل ما تأتي به اللُّغة من مخزون الوجدان، حتَّى أنَّ المرء ليتعجَّب من معرفةٍ تأتيه لم يكُن قد أودعها في وجدانه، وتعابير لم يكن قد تمرَّس عليها في بيانه.
المُهمُّ، أخذنا أنا ورشيد نُهدِّئ من روع صاحب «الديك»، وقد أُعجب أيَّما إعجابٍ بأُسلوب رشيد، فقُلتُ : حقَّاً، إنَّ الرفق ما دخل في أمرٍ إلاَّ زانه، ولا نزع من أمرٍ إلاَّ شانه.

رَحِمَ اللَّه رشيد جرهوم وغفر له وتولاَّه بفيض كرمه وسماحه، وألهم أهله ومُحبِّيه الصبر والسلوان، إنَّا للَّه وإنَّا إليه راجعون.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s