ساعة لقلبك..

ساعة لربك، وساعة لقلبك، هكذا نقول ولكن قلما نفعل، فعلى قدر ما تعددت وسائل الترفيه وأدواته حتى أصبحت صناعة رائجة وتجارة معتبرة على مستوى العالم بقدر ما ضمر الإحساس بالسرور حتى أصبح الواحد يستمع إلى الأغنية الجميلة وكأنه لا يسمع، ويشاهد الشريط السينمائي المتعوب عليه والمليء بالإثارة والمفارقات وكأنه لا يرى، وقد يكون سائر في الحديقة الفواحة والربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما، على حد رأي أبي تمام أو البحتري، فوالله ما عدت أدري أيهما بعد أن تشابه علينا البقر في كل شيء، فلا يميز إن كان يسير في جنينة أم في خرابة، وقس على ذلك يا رعاك الله، القضية ربما يفسرها المثل الشعبي اليمني “إذا كثر اللحم.. قالوا لحم حمار” وهذه مقاربة معقولة فقد فاض سيل الإنتاج الترفيهي حتى بلغ الزبى، والزبى هي الروابي والأكام التي لا يصلها السيل عادة فإذا ما شارفها فذلك مؤشر إلى الطوفان أو سيل العرم الذي حطم سد مأرب، ولكن يبدو لي أن إيقاع عصرنا الراهن لا يترك للأفراد المشغولين بتحصيل لقمة العيش “المرة” وسد سعار النزعة الاستهلاكية المرضية التي دمغت المجتمعات وفككت العائلات، وجعلت المراهقين يمشون كالسكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب العصر شديد، لايترك لهم متسعاً من التفكير أو فسحة من التأمل لتقصي إبداع ريشة في لوحة أو حياة في رواية أو خطفة نور في قصيدة أو وشيٍ إلهي في جبل أخضر ووادٍ خصيب أوحت ما هو أجذب للطبع السليم من السحر في عينين فاتنتين، ووجه أبلج كفلقة الصبح أو كما عبر أبو نواس: زودينا من حسن وجهك ما دام فإن الجمال حالٌ تحولُ وصِلينا نصلك في هذه الدنيا فإن المقام فيها قليلُ لاحظ الغصة والحلم المنقوص الذي جعل الشاعر ينشغل بالزوال ولما يتمتع بالشروق بعد، ويستعجل وقع الرحيل النهائي وهو في أول الطريق لما يبن بعد، فهذا ما انتبه إليه الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي في لاميته الشهيرة حيث جنح إلى التحريض على رشف كؤوس الجمال العِذَاب دون تنغيص ولا كدر: هو عبء على الحياة ثقيل من يظن الحياة عبئاً ثقيلاً أيهذا الشاكي وما بك داء كيف تشكو إذا غدوت عليلاً فتمتع بالصبح ما دمت فيه لا تخف أن يزول حتى يزولا فالذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا يا أخي العزيز ويا شقيق الروح: التقط أنفاسك قليلاً، وأملأ رئتيك بالأنسام الندية ثم تأمل بدائع الخلق ولطائف الصنع وما جُبلت عليه النفوس من إيثار وأثرة ومن ميسرة ومعسرة ومن أمل مديد وأجل بديد ومن قناعة تكتفي بالقليل وطمع ليس إلى إشباعه من سبيل، تأمل يا عزيزي قول الإمام الشافعي: سهرت أعين ونامت عيون في أمور تكون أو لا تكون فادرأ الهم ما استطعت عن النفس فحملانك الهموم جنون إن رباً كفاك بالأمس ما كان سيكفيك في غدٍ ما يكون في كتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي: “قيل فما الدنيا؟ قال: لعب ولهو، وغفلة وسهو. قيل: ثم ماذا؟ قال: شاهد كذوب، وزخرف خلوب. قيل: ثم ماذا؟ قال: موجود ولكنه معدوم، وحقيقة ولكنه باطل، ويقظة ولكنها حُلم، وكون ولكنه في طيِّ اضمحلال، واضمحلال ولكنه في حكم كون، وغاش في جلباب نصيح، وعدو في ثياب صديق”. يا ترى هل تغير عصرنا عن عصر أبي حيان في القرن الرابع الهجري حين لم تكن بغداد مضامة ولم يكن العرب في حال مهانة، ومع ذلك كان التوحيدي “فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وخصاصة ومكنة” على حد تعبير ياقوت الحموي، يتجرع الفقر والمهانة “محدوداً، محارفاً، يتشكى صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه”.. لنطو هذه الصفحة حيثما وجدت في حياتنا، فما أحوجنا إلى هنيهات من فرح تروّح عن القلوب المكلومة.. و.. نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى..

اترك تعليقًا