دنيا التضاد

من حقائق الحياة الجوهرية التضاد وصراع الأضداد، حيث الغلبة لطرف حيناً ولآخر حيناً آخر، وذلك ضمن عملية معقدة لتآكل الإنتصارات وانبعاث عوامل القوة في الهزائم، ولذلك فلا شيء يدوم على حاله إلا وجه الله سبحانه وتعالى، {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}.
وللتضاد حكمة عظيمة لإدارة الحياة وتجديدها وانبثاق الحي من الميت والميت من الحي في تعاقب أزلي لا يشمل الإنسان والمجتمع الإنساني لوحده، وإنما يحتوي الطبيعة بفصولها وأصولها ونهارها وليلها واخضرارها ومواتها، ويمتد التضاد إلى ما نعتبره جماداً بمقاييس الحياة البشرية القاصرة، ولكنه يضج بالحياة الداخلية في عالم الذرة والإلكترونات الذي كان شديد الخفاء حتى تمكن منه الإنسان بسلطان العلم وفتوحات العلماء، حقاً إنه بضدها تتميز الأشياء، فمن لا يستجيد الخلق الكريم لن يلفته الذميم، ومن لم يتعلق قلبه بالجمال المنير لن يصدم بشناعات الطبع الدميم، كما أن من لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر، وذلك يعني أن على الإنسان الذي اختصه الله تعالى بالعقل فهو يعقل نفسه ويعقل كل ما هو خارجه أن يكون فاعلاً ضمن القوانين الكونية الكبرى التي يعتبرها العلماء المستنيرون كتابه الله الأعظم، حيث تنظم القوانين المجرات العظمى والنجوم الموارة والأفلاك الدوارة، كما تنتظم أصغر الذرات، يقوم التضاد في صلب جميع العمليات، فاليمين يلد اليسار، والفوق لاي كون إلا بالتحت، ومن يمسك بالحكم والهيلمان اليوم سيفلته غداً لأنه – وبحق – لو دامت وصلت إليك. ويغفل الناس عادة عن القوانين أو يتغافلون سذاجة ولجاجة، فتبدو اللحظة العابرة كأنها الأبدية الغائرة، والمصيبة الحاصلة كأنها القيامة الواصلة، والنعمة الحالّة كأنها الضالة، ولو أمعنوا النظر للمسوا لمس اليد الشرور في قلب الحزن، والراحة بين أشواك العناء، ونصر الغد في هزيمة اليوم، ولكن الإنسان بطبعه عجول {إذا مسّه اليخر منوعاً وإذا مسّه الشر جزوعاً}، وبسبب من هذه الغشاوة يعجز عن تدبر الولادات المستجدة، والبشائر المتمدة، والودائع المستردة، وقدرة الإستجابة المتدفقة من الممانعة والمصاولة وعدم الإستسلام على مواجهة التحدي مهما بدا متوثباً مندفعاً غلاباً، {ولولا دفع الله بالناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين}… صدق الله العظيم.
طوبى لقادة الحياة الذين يدركون تكامل الأضداد في تعلقها برقاب بعضها وتساندها كأحجار الدومينو، فلا يقفون في طريقها عثرة كالواقف في سكة القطار وهو لن يضيره في شيء، وإنما سيفقد حياته، وكان أحرى أن يجد لنفسه مكاناً في مقصورة لطيفة يمتع طرفه ويشارك سار الركاب أشواقهم إلى مقاصدهم وأهاليهم وأحبائهم، فيغدو إنساناً في العالمين لا شيطاناً في الماردين.
طوبى لقادة الحياة الذين يسيرون بالناس هوناً لا يعنتونهم ولا يخيفونهم ولا يحرمونهم من حقوقهم الطبيعية، ويتركونهم لسجية الحياة كالطيور تغدو خماصاً وتؤوب بطانا، ففي العيش متسع مكين، وفي العقل ملاذ حصين، وفي الحركة بركة لا تخطئها النعماء، ولا تحول دونها الضراء.
طوبى لصناع الحياة، يأكلون من حاصل أيديهم وعملهم، منسجمين مع الفصول، متآخين مع الحقول، للطير نصيب مما رزقوا وللمؤمنين شطر مما أورقوا، لله شاكرين، ولخلقه ناصرين، وللخير مسلمين.
طوبى للأغنياء إذا رقوا، وللفقراء إذا عفوا، وللقضاة إذا عدلوا، وللحكام إذا عمروا، وللزهاد إذا اعتزلوا، وللتجار إذا أقسطوا، ولحملة السلاح إذا كفوا عن الأذى واسحجوا “أنت يا حامل السلاح ما معك تحمل الحديد؟”.
في دنيا التضاد لا مجال لمقولة “حبني بالغصب” التي يحلوا لأحبائنا في عدن ترديدها، ذلك أن الأمور تجري إلى مستقر لها، ما يذكرني بالشاعر الذي مله الضعف، وسئمته تكاليف الحياة قبل أن يسأمها، فألقى نظرة قص بها آثار عبوره في الحياة وكيف خرج صفر اليدين فقال:
قد كنت أمشى كالألف=وصرت أمشي لام ألف
وكنت أجري مسرعاً=فصرت أحبو وأقف
وكنت أدعى يا فتى=فصرت أدعى يا خرف
والله غالب على أمره من قبل ومن بعد…

اترك تعليقًا