إذا أنت

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟

{ .. لا شك أن الشاعر الذي استعصم بهذا البيت ، قد مَرّ بتجربة مرة مؤلمة مما تخبئه الحياة لأبنائها الذين تستقبلهم بالترحاب وتودعهم بالعيون الغضاب، ومع ذلك فإن الحكمة التي اكتنزها القائل جعلت الكأس المر مستساغا بقدر ما يستسيغ المرء الدواء لأنه يتوخى منه زوال الداء ، إن تقبل الأذى هو من شيم الكرام الذين يشيحون بوجوههم عن المؤذي .. لإدراكهم أن كل إناء بما فيه ينضح، فإذا كنت قد استأذيت بنفثة السم ، فكيف بمن يحمل نبع السم في داخله، إنه بدون شك أكثر تعرضا لسريانه ، لأنه في حياته وصرعاته كالنار تأكل بعضها ، إن لم تجد ما تأكله ، لذلك وجب له الرثاء ، حتى إذا تشامخ برأسه الهزيل ، سرّحت نظرك في هذه الأُلهية وأنت تضحك في أعماقك وتردد مع الأغنية: (وأنا نالي إذا قالوا رفع راسه- بكيفه يرفعه وألاّ يوطيه).. ثم ألا تعتقد أنه يُعلي مقامك بأحجاره التي يرميها عليك ، كلما وصلك حجرٌ وضعته تحت قدميك، وعلوت فوقه مكانا وزمانا، وهل ترى سوى الأشجار المثمرة أما ذوات الشوك، فلا يقاربها أحد، أولم تسمع قول الشاعر:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طُويت.. أتاح لها لسان حسود

و:

لولا اشتعال النار في ما لامست

من كان يعرف طٍيبَ عُرفِ العودِ

قلت لصاحبي الذي شكا لي الجحود والنكران: لا بأس عليك ولا تقطّع نفسك حسرات بسبب (سين) من الناس أو (واوٍ ) من الآنسات، ذلك أن الإنسان ما ظل يدبّ على ظهر البسيطة فهو مضطر إلى التعامل وربما التعايش مع كل أنواع الآفات ، ومنها ما تراه وأكثرها لا يرى، ولن تستطيع الرحيل عن أرضك إلى كوكب تكون فيه لوحدك، وحتى لو فعلت فلن تطيق العيش:

ولو أني حُبيت الخلد فردا

لما أحببت في الخلد انفرادا

ياعزيزي الباكي .. كفكف الدمع، واتعظ بأبي العلاء:

غير مجد في ملتي واعتقادي

نوح باك ولا ترنّم شادي

وسواء صوت النعي إذا قيس

بصوت البشير في كل نادي

صاح هذي قبورنا تملأ الأرض

فأين القبور من عهد عاد

لمحت انفراجا في أسارير صاحبي فأدركت أن المعري قد أصاب حيث عجزت عن الإصابة، وما الحياة سوى وجهة نظر فإن أسرفت في الرؤية المتشائمة غمرتك بالكآبة، وإن التقطت خيطا من الفرح غزلت منه ثوبا للأناقة والجمال، ثم على ماذا؟ وكل الذي فوق الترابِ ترابُ ، هل أنصت ياصديقي للمتنبي:

خبَُرَ الناسُ قبلنا ذا الزمانا

وعناهم من أمره ما عنانا

وتولوا بغصة كلّهم منه

وإن سرّ بعضهُم أحيانا

بعضهم ، وليس كلهم، وأحيانا وليس في كل حين، ويصل أبو الطيب إلى حكمته الخالدة التي لا تدري إن كان قد أخذ بها في حياته أم لا؟:

ومتاع الحياة أحقر من أن

نتعادى فيه وأن نتفانى

هنا وجدنا شوكة الميزان التي توزع الأنصبة بالقسطاس المستقيم ، فيطمئن حتى الجحود إلى ما في داخله ، ذلك أن كل أمرئ مهيّأ لما خلق له و.. سامحونا.

اترك تعليقًا