هذيان محموم..

تموج الحياة بالتحولات والمتغيرات ، فمن كان قارئا جيدا استوعب سطرين أو ثلاثة من مجلدات النشوء والارتقاء والانحطاط ، ومن كان أميا فإن الموج يغرقه قبل أن يعرف أنه كان يسبح في محيط لا قرار له ، وفي جهله ما يغنيه عن شقاء المعرفة:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الجهالة ينعم

أمم تحلق نحو الذرى بعد أن استوعبت شروط ومتطلبات الطيران ، وأخرى تنحدر كجلمود صخر حطه السيل من عل ، ولا يغني البكاء على الأطلال في ميادين مجالدة الأبطال:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينك إنما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

كان الملك الضليل على يقين من فاجعة الخسارة في نهاية الدرب ومعها الموت والراحة الأبدية حيث يستوي الناجحون والفاشلون بعد أن تطوى الصحف وتجف الأقلام ، ومع ذلك أنشد أغنية الدرب ليودعها في خزائن الزمان سبيكة من الأحزان، ثم سكت المغني، هدّ منه الداء وانقطع الغناء على رأي السيّاب.

عدنا ذلك اليوم من وادي صاعم بعد أن شهدنا افتتاح مصنع الاسمنت وعلى غصن قات وشربة ماء أخذت أدردش مع علي محمد سعيد فروي لي حكاية صاحبه في الحديدة الذي كان يستغرب عمله الدائب وانشغاله الدائم بتثمير المال وتصريف الأعمال فيقول له: ياعلي محمد خفف شوي ، كم باتجمع، وكم باتبلع ، وبعد أيش الدنيا بأسرها شوف الحياة (شربة ماء وغصن قات ، وبكره بعده، الله يرحمه مات ويعلق الرجل الثمانيني: هذه هي الدنيا كما وصفها صاحبي الله يرحمه.

في تموجات العالم بالقسوة والرحمة قرأت في خبر من الارجنتين أن كلبة عثرت على طفلة رضيعة في مكان مهجور بضواحي العاصمة الارجنتينية فحملتها للعيش مع جرائها في منطقة فقيرة موفرة لها المأوى والرضاعة المشتركة وقد اكتشف صاحب الكلبة الأمر عدما سمع صراخ الطفلة في الكوخ الذي تأوي إليه الكلبة، فتصور قسوة الأم التي رمت ابنتها على قارعة الطريق ورحمة الكلبة التي عطفت عليها بلا منّ ولا أذى:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

وصوّت إنسان فكدت أطير

في سيدني باستراليا عثروا على حوت رضيع ضال عكف خلال الأيام الماضية على الاحتكاك ببطن يخت في خليج سيدني طلبا للبن وظنا منه أن اليخت أمه ، وحين عجز المختصون عن انقاذه اطلقوا عليه رصاصة الرحمة وذلك بإعطائه جرعة مميتة من مخدر بعد أن تدهورت حالته الصحية وانقسم الرأي العام بشأن مصيره، وقد أوضح الخبراء أنه يستحيل إنقاذه إلا إذا تبنته أنثى حوت أخرى أثناء موسم الهجرة القادم ، حيث يستحيل ابقاؤه على قيد الحياة حتى ذلك الوقت.

وهكذا فإن بعض الموت رحمة ، كما أن بعض الرحمة في باطنها العذاب ، وأثناء هذيان الحمى ، كان مغني الحميني يردد بشجن عذب:

أنت يا حامل السلاح

ما معك تحمل الحديد

إحذر الأعين الصحاح

ما على فعلها مزيد

لم أعثر على مصدر الصوت فتأكدت أنه ينسرب من أعماق بعيدة داخل أشجاني وقاكم الله من هذيان الحمّى.

اترك تعليقًا