الكتاب والجراد

أنا أخمن أن الدكتور فارس السقاف رئيس الهيئة العامة للكتاب في فمه مياه كثيرة يخشى أن “تطرطش” على المستمعين إذا هو “فضفض” كل ما في قلبه وقال ما يجب أن يقال حول الكتاب، ذلك أن من رجله في النار ليس كمن رجله في الماء المثلج، وليس أمام الرجل سوى أمرين لهما ثالث باهت، فأما الأول فهو ما درج عليه مسؤولون أو مسائيل من الوزنين الثقيل والخفيف، ومن وزن الذبابة كذلك وهو الإشادة بالمنجزات وإيجاز القول بأن “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، معتبرين ما قل ودل خير الكلام، وعلى أسا أن “من كثر هداره قل مقداره”، وهذا ما تجنبه الدكتور.

وأما الثاني فهو التصريح إلى درجة التجريح بواقع الحال، وهذا لا يقدم عليه سوى أولي العزيم ممن لديهم الإستعداد النفسي بعد العزّ والهيلمان لتأبط مجموعة كتب مختارة والدوران في شوارع صنعاء من مقهى إلى مقهى، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا، وهذا ما قاربه الدكتور.

وأما الثالث الباهت فهو التلميح دون تصريح، وضربة على مؤخرة الحمار، وأخرى على الركاب، لعل جبل شمسان يتحول إلى عصيدة وبحر عدن إلى مرق شيباني فتقام الأفراح والليالي الملاح، وهذا يندرج مع المستحيلات: الغول والعنقاء والخل الوفي، نعم… أخي وصديقي فارس السقاف لا تنقصه المقدامية، ولا هو بالعي الذي تنعقد لسانه تحت لهاثه، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة، ومهنة بيع الكتب تسير حثيثاً نحو الإنقراض لتلحق بالديناصورات، وما لم تتغير المنهجية بأسرها وتنقلب أو تقلب رأساً على عقب فإن البكاء على الأطلال لن يزيد العيون إلا تورّماً، أو سيأتي وقت وشيك تلعن فيه الأجيال أبا الطيب القائل: “وخير جليسٍ في الزمان كتاب”، فهم حين يقارنون الكتاب بمسلسل تركي مدبلج باللهجة السورية الناعمة يتحوليون فوراً إلى صنف ربات البيوت اللواتي يتسمرن إلى الشاشات وهن يلعنّ أحاديث الرجال السياسية في مقايلهم وسمراتهم… نعم… أخي فارس… لقد بلغ الهزال بالكتاب ما بلغ بتلك الناقة.

ثم بتوفيق من الله تعالى ودعاء الوالدين قدم للجمهور هديته الجميلة (السياسية) التي سرقت شعار (كندا دراي) وهو “لكل ذوق ما يشتهي”، وهي تدرب الناس على القراءة تدريباً رفيقاً بلا خيزران ولا (فلكة) شأن معلم زمان، وشأن بعض الصحف التي تقول لنا “حبني بالغصب”، وكان للأستاذ خالد الرويشان القدم المعلى في طباعة سلسلة من الكتب اليمنية غير المسبوقة في تنوع موضوعاتها وتعدد مبدعيها وفي أناقتها، ولكن التجربة لم يقدر لها الإستمرار، ربما لأن النجاح في بلادنا يحسب للفرد، فيعاقب عليه، ولا يحسب للوطن فيؤجر الفرد عليه.

وكنت قد قرأت للأستاذ السقاف تصريحاً قال فيه “إن ما يصرف للكتاب أقل بكثير مما يصرف لإدارة مكافحة الجراد…” مضيفاً أن “الإنحدار التعليمي والمعرفي الذي نعيشه الآن مرجعه إلى إهمال الكتبا لاذي يعد أساس المعرفة واكتساب الثقافة…”، وكم كنت أود لو قال لنا كم يصرف للجراد وكم يصرف للكتاب، حتى نعرف أيهما أخف وزناً وأعلى مقاماً، علماً أن كيلو الجراد المجفف يباع بأغلى من مجموعة كتب من الوزن الثقيل… وربما قررت قبيلة القراء – خوفاً من الإنقراض – التحوّل إلى سرب جراد لتنال المعلوم من المقسوم وليس ذلك على الله تعالى بعسير.

ما علينا… فثمة ما لفت نظري بجانب تصريح د. فارس السقاف، حيث كتب د. سعيد الجريري في (الأيام) مقالاً نازفاً عن هذا الجرح، ومما جاء فيه “إن المكتبة السلطانية في المكلا التي أحيلت تبعيتها إلى الهيئة العامة للكتاب، لها نزاع شهير مع المؤسسة الإقتصادية على أرض تلمكها المكتبة بوثيقة رسمية، وقد مرت سنوات وأمين المكتبة يصرخ في واد وينفخ في رماد، علماً أن في حوزته ملفاً في محتوياته وثيقة رسمية تعود إلى 1958م، تثبت ملكية تلك الأرض لبناء مكتبة عامة… ويضيف الكاتب “إن المؤسسة الإقتصادية سلطة لا تطال، وكأن من كان من المسؤولين الذي تعاقبوا على حضرموت لم يستطع أن يمكن المكتبة من أرضها لتقيم عليها مصلحة ثقافية عامة”.

ولأنني غير ضليع بهذا الخلاف – الذي يمكن تصنيفه في باب المضحكات المبكيات، لأنه بين جهتين عامتين مملوكتين للشعب – فإنني أتمنى على الأقوى والأغنى التماس الأجر والثواب، والإستغناء عن هذه الأرض للصالح العام، فالمؤسسة الإقتصادية ليست ذلك التاجر الحريص حد الفقر والإملاق على الدرهم والدينار، وينبغي أن تكون لها مآثر مشهودة، وأريحية محدودة، وكفى الله الجميع شر النزاعات والمحاكم، وما لم يستطع الصغار حله بحكم محدودية صلاحياتهم، فإن الكبار يمحون الأثر السيء بجرّة قلم… وهذا ما نتمناه… ويأتي بالاخبار من لم تزود.

اترك تعليقًا