من يعش رجباً..

عالم يرحل وآخر يتقدم… هنكذا هي السنين حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، فعلى المهزوم أن يتقبل هزيمته بصدر رحب، لأنه قد عجز عن الدفاع، وعلى المنتصر ألاّ يغترّ بنصره لأنه مجرد طابق في عمارة الحياة، ستعلوه طوابق وطوابق تثقل كاهله حتى ليتمنى أنه لم يكن شيئاً مذكورا. لذلك قيل أن العدل أساس الملك، فمن عدل استعاض بالضرر الطبيعي ألق الأبدية الذي لا ينطفئ، لأنه صيغ من مادة لا تفنى، وتطلع إلى الهدف الأسمى، العدل في جوهره العميق حامل قيم الحياة المثلى… الحق، الخير والجمال، ويستحيل أن يكون الحق شريراً أو قبيحاً، كما يستحيل أن يكون الخير جائراً، أو يكون الجمال ظلاماً وشحيحاً.
الدنيا استدارت في هذا الصيف بعد أن بدلت عادتها في اإستدارة كل قرن أو أكثر، فتهاوت مع القدرة الرقمية البشرية لتستدير كل عقديم من الزمان تقريباً، وبذلك كذّبت أوهام المخططين للقرن الأمريكي والقائلين بنهاية التاريخ، لأن أمة من الأمم قد وضعت الحضارة في خزينتها وأغلقت عليها الباب إلى يوم يبعثون… طبعاً هذا هذراء قالت به كل حضارة تقريباً، لتمحو من سبقها وتضبب أجواء اللاحقين بها، لعل وعسى، ومع ذلك فلن تجد لسنة الله عزّ وجل تبديلا.
بكين أشرقت في أولمبيادها وقدمت إلى العالم روائع من الجمال تنتظر استحقاقاتها من الحق والخير، وهم يعلمون أين وكيف، فالعارف لا يعرف، وموسكو كذلك ولكن عليها أن تضع العدالة نصب عينيها في جورجيا، وإلا وقعت في فخ الدوائل من الأوائل، ولأن تقتاد من نفسها لنفسها خير لها من أن تترك عقابها للتاريخ، أما جورجيا فعليها وجيرانها الآخرين والأبعدين مثل دول البلطيق الثلاث أن تعيد دراسة وضعها الجيوسياسي وإلاّ تآكل بيدين فتختنق، ذلك أن راكب الليث قد يهابه الناس إذا كان فارساً حقيقياً، ولكنه أكثر الناس تهيباً من ركوبه إذا كان عاقلاً، لأنه لا يدري متى يضيق به الليث ويرتد عليه فيبلعه بضربة واحدة، والمثل العربي يقول: “جبان ولا الله يرحمه”، فليرحمنا الله جميعاً حتى لا نرى مناظر المقتولين والمهجّرين ودموع الأمهات الثكالى:
وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ=ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
هذا الصيف اللاهب يؤشر لاستدارة العالم بأكثر من لغة وأكثر من بيان، دخلوا بالحكم من الصغار الذين هم ملح العالم كما يقول السيد المسيح “فإذا فسد فبماذا يملّح؟”، لأن هؤلاء يستديرون مع دورة الأرض، فيرجحون الموازين ويطففون في المكاييل “معاهم معاهم، عليهم عليهم”، مع الإعتذار للغة…
ولا شك أن جنوب شرق آسيا في الجوار الصيني قد استدار إلى التنين الناعم الملمس عبر الأولمبياد، وآسيا الوسطى قد استدارت إلى الدب الروسي الذي بدا في حربه كمن يسير على حبل في السيرك… لذلك فإن هذا الصيف له ما وراءه، ومن يعش رجباً يرى عجبا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s