الكلمة الشرارة

في البدء تكون الكلمة كالشرارة، ثم يشتعل السهل، ويتدفق الفعل كالأمواج التي تتطاول كالجبال وحكمم البراكين، الكلمة الكاذبة لا تشتعل فهي كعود الثقاب (الكبريت) المتشبع بالماء، الكلمة المنافقة لا تشتعل للأنها تبطن غير ما تقول وتعلن أنها تطعن وجودها قبل أن تكون شيئاً مذكوراً، وبذلك تتلاشى في الهواء كالدخان، الكلمة/الشرارة لحظة صادقة مع النفس ما أصعبها، وما أجلها، وما أغزر ثمارها، إنها تفعل ما تفعله السدود حسن تحول مجاري الأنهار لتتحكم بالتاريخ وبالنماء، وليكون الإنسان هو الميزان

الكلمة/الشرارة اندلعت في جزيرة العرب مع (إقرأ): {إقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) }ليس بعد الخالق خلقٌ يخلُق، وكتاب الكون شاهد على الخلق المستمر في تحولات الليل والنهار، وتجليات الفصول، وأسرار الكائنات التي يستدلها البشر في سعيهم الدؤوب إلى المعرفة، وفي ترقيمهم لتلك المعرفة بالقلم والكتبا، وكل ذلك كرمٌ لا تلحقه منة، وعطاء لا يشوبه كدر، ودهشة لا حدود لها في عوالم مسحورة يرتادها العلم والمعلماء، ويستشفها المبصرون والحكماء، ويقرى في مدارجها السالكون المعرضون عن إغراءات الطمع والهلم ومخاوف الجزع.

ومتاع الحياة أحقر من أن=نتعادى فيه وأن نتفانى

ما من طريق إلى ما لا نعلم سوى ما نعلم، إن المعرفة تبنى طبقاً عن طبق وراسا لساس، ولا تلبث الطوابع العليا حتى تكون قاعدة لما هو أعلى، ذلك أن بحر المعرفة لا ينفد، ولو كان البحر مداداً والشجر أقلالاً… وحين رفع العلم غطاء الجينوم البشري وقرأ العلماء رموزه وقعوا على كنزٍ سيدوخون في ثناياه ومحطاته عقوداً وحقباً وقروناً، وسيسلمهم من معرفة إلى جهل إلى معرفة، في متوالية محصلتها الإرتقاء بالقياس إلى ما سبق، والحيرة بالقياس إلى ما وجب، لأن المعرفة بقدر ما هي رسالة بقدر ما هي عبء لا يحمله سوى الأقوياء…

لقد انطلق العرب من جزيرتهم حين ألقوا ما ضيهم وراء ظهورهم، ونظروا إلى الأفق البعيد الذي تعيد صياغته الرسالات العظيمة، فتبدلوا بالذل مهابة، وبالعدم وجوداً لم تنطفئ نيرانه عبر العصور، ثم أطبقت عليهم عوامل الضعف فاستسلموا لها استسلام العبيد، وتناسوا نخوة الأحرار، فكان التتاري الأجرد يسوق أقواماً من ذوي العمائم سوق الأغنام، يهطعون رقابهم للذبح، ويطلبون من قاتليهم إحسان القتل كأنه لم يبق من الإحسان الذي كانوا سادته غير المهانة… هكذا أصبح الحال في الأندلس وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندية، فبدل الله تعالى بهم أقواماً آخرين، سنة الله التي خلت ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وتمر الأمة اليوم في مرحلة إنحطاط لا يمكن أن تغطيها بيادر الكلام الكاذب والتكاذب الفاضح، وما لم يستلهم العقلاء والشجان قيم الإستنارة والصدق والتضحية فإن التردي هو المآل، ولن تجدي الأماني الخلّب التي تراود السذج ممن يحلمون بماض صنعه رجال تحكموا بقوانينه فاستحقوه ، وأراده خلفهم وراثة فلم يجدوه… ومع أن التشبه بالكرام مطلوب ومرغوب ومحبوب إلا أنه ليس على تلك الطريقة التي وصفها الشاعر الذي غادر الأندلس ساخطاً:

مما يزهّدني في أرض أندلس=أسماء معتمد فيها ومعتضد

ألقاء مملكة في غير موضعها=كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

لقد أصاعت الهررة الأندلس، وأضاعت الجرذان فلسطين، ومزقت الثعالب وادي الرافدين، والأيام لا تزال حبلى ما لم تنبثق الكلمة الصادقة التي ألهمت اليابان الصدق الحضاري حين وجدت نفسها محاضرة بقطعان الذئاب البريطانية والفرنسية والروسية التي كانت تتلمظ لاحتلال الجزر التي كانت تعيش في وهم بلاد الشمس المشرقة، وقد تداعى عقلاء القوم بقيادة الإمبراطور الإصلاحي (ميجي) وبجانبه المحاربين الساموراي، وكان أول العقل كشف الأوهام ومصارحة الشعب بالمهام، فأصدروا البيان الإنقلابي بالمعنى الحضاري في نهاية القرن التاسع عشر:

“نحن يا شعبنا العظيم نجهل العالم تقريباً، وبعيدون كل البعد عن ما هو حديث وعصري، نزعتنا إقطاعية غامضة، وتعود لمجاهل التاريخ القديم، نحن أيها اليابانيون بلد ضعيف بمقياس عصرنا، وغير قاردين على الصمود في مواجهة تحرشات القوى الإستعمارية الغربية، ولن يتحقق لنا التقدم والتزاحم مع الأمم الأخرى الأكثر تحضراً ما لم تشهد اليابان تغييراً حقيقياً وشاملاً من الجذور، إننا كأمة نفتقر إلى أمرين تمتعت بهما ثقافات الأمم الغربية المهيمنة، هما: العلم وروح الإستقلال، فإذا تم نقل هذين الأمرين إلى صميم ثقافة يابانية جديدة فإن اليابان ستتمكن من أن تصبح أمة قوية وثرية، ويمكنها أن تنافس غيرها من دول العالم كافة”.

وهكذا انطلقت الشرارة لا من أجل نهب قطعة أرض بالحرام أو ترويع الآمنين العاملين بسلاح البطرة، وإنما من أجل بناء أمة وحضارة… ولنتذكر أن اليابان أصغر مساحة من اليمن، وأن شواطئنا أطول من شواطئ بلادهم، فمتى تنطلق الشرارة؟

اترك تعليقًا