
دوستويفسكي الكاتب الروسي الشهير نتعلّم منه أن الكتابة الخالدة هي فنّ “السهل الممتنع”، وسهلٌ لتدفقه كالماء النمير من الينبوع الغزير، رقراقاً زاهياً عذباً سلسبيلاً يتخذ مجراه بيسرٍ وسهولة دون عناء ولا مغالبة، يلتف حول الصخرة، ويفيض من الحفرة، ويتغلغل في جذور الشجرة، ثم يصعد في نسغها، ليروي عطش كل ورقة، وإن ترامت بعيداً، ولينعقد خضرةً باهرةً وثماراً مكتنزة، متفاعلاً مع الضوء والحرارة والبوردة، وهكذا هي الكتابة الراقية بين وعيها ولا وعيها، تتدفق من موهبة الكاتب قلائد من الضوء والعرفان والنماء، على امتداد الأيام، وتبدل الدهور والأعصار والدول والحكّام، تتغلغل في الموروث الثقافي لمختلف الشعوب، تصبّ في النهر الكبير إذا تقاربت المصادر وتشاهبت المحابر، وتشق مجرى خاصاً إذا تمايزت، وهل في كل ذلك تمثل عبقرية الماء في صناعة الحياة وإدامتها، تكافح التصحّر الثقافي، والإنغلاق الحضاري، وتمحق دعاة الكراهية والعنصرية، وتقسيم الإنسانية. أما الإمتاع فهو فرادة العبقرية في تجلياتها التعبيرية، وزوايا مقاربتها للأفكار، بحيث يعتقد القارئ – حتى ولو كان فطناً – أنه لو وضع الرواية جانباً وأمسك بقلمه على ورقة لجلّى وأبدع وأتقن بما يجاري دوستويفسكي، ولكنه إذا ما خطّ أول جملة يكتشف صحة المثل “لو كل من جاء نَجَر ما بقى في الوادي شجر”، ذلك أن دوستويفسكي يمثل لعشاقه ما يمثله السراب في الصحراء، يغريهم بملاحقته دون أن يستطيع أي منهم إمساكه، ثم من يستطيع أن يصنع ماءً لو عرف معادلاته الكيميائية، ففي الكتابة المعجزة شيئاً من نفح الروح، فقد صَحبتُ روايتين لدوستويفسكي (الأبله) و (مذلوّن مهانون) على سريري الأبيض، فكانتا معيناً لا ينضب لإثارة العاطفة الصادقة العنيفة كزوابع الصحراء، أو كعواصف البحار، وهل فوق ذلك من بُغيةٍ لمن يعاني المرض وكسل الوقت وطول الجمام.
وما في طبّه أني جوادٌ=أضرّ بجسمه طول الجمام
كان دوستويفسكي نفسه نموذجاً لأبطال، ففي كل واحدٍ منهم بضعة منه، من روحه، من شقائه، من تساميه، من حروبه التي لا تنتهي ضد التشوّه في النفس الإنسانية، وضد الضعف ومع الضعف في الوقت نفسه، وهو يجنح بغريزة نقار الخشب إلى الحفر عميقاً حتى ينفذ من الجانب الآخر للشخصية، يروزها ويختبرها حتى يعثر على الجوهر العميق الصلب دون كلل وملل ولا اختصار، ولذلك ظل نجمه يتصاعد، فكل جيل يعثر على طبقة من طبقات النفس الإنسانية التي أضاءها هذا الكاتب العظيم، وقد قال عنه نيتشه “دوستويفسكي هو الوحيد الذي أفادني شيئاً في علم النفس”. ويقول الكاتب الفرنسي قبل مائة عام ودوستويفسكي تحت الإكتشاف المبكر في فرنسا “هامة تولستوي الضخمة لا تزال تنشر ظلها على الأفق، لكن كما هي حال السائر في الجبال، كلما أوغل في البُعد راحت عاليات القمم تطلع من خلف تلك المنخفضة، لقد أخذت قامة دوستويفسكي تمتدّ فوق هامة تولستوي العملاقة، إنه القمة التي لا يزال يحجبها الضّباب، العقدة الخفية في السلسلة، وهو – لا تلوستوي – من ينبغي ذكره إلى جانب إبسن ونيتشه، وقد لا يكون دوستويفسكي في مستواهما فحسب، بل ربما كان أعظم شأناً منهما”.
الضالة..!
17 نوفمبر 2007
كان دوستويفسكي عاشقاً للأرض ومخلوقاته الآدمية المعذّبة، ولكنه كان مسحوراً تماماً بالأفق، أي بالمثال الذي ينبغي أن تتعلق به الإنسانية، وبقدر إنحيازه للضعفاء بقدر ما كان يُلهب بسياطه ظهور المترفين الأنانيين، وهو لم يكن ضد طبقة أو فئةٍ، وإنما ضد الشرّ حيثما تجلّى وأينما ظهر، وكان يفرح كطفل ببرعم خير يبزغ من أية تربة، ولو كانت في أطيان الجبابرة، فهو قد تحدث بحب وتقدير عن ذلك الضابط الطيّب القلب الذي كُلف بنقله مع زميلين إلى سيبيريا بعد أن حَكموا بالإعدام عليه بتهمة سياسية غامضة، ثم جاء العفو وأمر النفي إلى مجاهل القارة الثلجية (سيبيريا)، ولم يكن قد تبقى دقائق على زمن الشنق المعلوم، لقد تأثر بلمسات قد لا تلفت نظر أحد غيره، حين عاملهم ذلك الضابط بقدر من احترام آدميتهم، وهم المدانون المسلوبون من حريتهم والمسلسلون بالقيود، يزحفون على الزلاجات الجليدية لمسافات هائلة بملابس أقرب إلى الأسمال.
هذه التجربة السيبيرية – التي قضمت من عمر الكاتب عشر سنوات – قد لازمته في كتابته وفي ذاكرته وخاصة الدقائق التي فصلت بين الإعدام والنفي، فقد كانت من الكثافة بحيث غدت تشبه الثقب الأسود الذي يبتلع مجراتٍ بأسرها دون أن يسمح حى للضوء بالإفلات منه.
وحيثما تُنقّب في أفكار وجبوات وأبطال دوستويفسكي فستجد نزفاً من ذلك الجرح الغائر، إضافة إلى البؤس المادي الذي عانى منه الكاتب وجريه وراء لقمة العيش، ولا شأن لها بالأفكار وأبطال الروايات، ويتعاظم ذلك إذا ما نظرنا إلى طبع دوستويفسكي هو من الذين يجعلون الحياة رغيدة لمن حولهم من الناس، بينما هم يبقون طيلة حياتهم يعانون الفاقة وأي فاقة؟ يقول في إحدى رسائله “أنا في حالة من العوز تكاد تدفعني إلى الإنتحار، لا أستطيع تسديد ديوني، وليس بوسعي أن أسافر دون مال، لقد تملكني اليأس كلياً”.
من وسط عيشة ضنكة كهذه كان يكتب مواعظه متشرباً بتعاليم السيد المسيح رغم كراهيته للكنيسة ويأسه من دورها في الإصلاح، فالكنيسة لا توجد إلا حيث توجد السلطة، ولن تكون على الضفة الأخرى أبداً، ويبدو أن موقف البلاشفة اللاحق من الكنيسة قد كان استلهاماً لدورها المخيّب للآمال بوصورة من الصور، ولذلك لم تقم لها قائمة إلا بعد اضمحلال الحزب الشيوعي.
عاصر دويستويفسكي – الذي أصدر أول أعماله الروائية في أربعينات القرن التاسع عشر – عهد القنانة (عبيد الأرض) في روسيا، فقد كان النبلاء يملكون الأرض بمن عليها من الفلاحين، ولذلك – وبسبب من هذا الظلام والظلم الإجتماعي – كان يستحيل على روسيا اللحاق بالغرب الذي محق الإقطاع وأطلق حريات العمل والتنوير وعجلة الرأسمالية، ولم يُلغى نظام القنانة إلا في عام 1861، ولكن مخلفاته وآثاره ظلت في النفوس حتى قيام الثورة الشيوعية التي مثلت طوراً جديداً لا شك أن لكاتب بمثاليته قد كان أحد روافده، ويقول الناقد الروسي كوليشوف الذي قدّم لرواية (الأبله): “لقد فضح دوستويفسكي الكنيسة الرّسمية باعتبارها شراً كغيرهها من الشرور، ولهذا وجد في المسيح المتطهّر من أدران الكنيسة ضالته المنشودة.
مخاضات..
18 نوفمبر 2007
عانى دوستوفيسكي من مرض الصّرع الذي ورثه عن والده، وقد تفاقم في الفترة التي كان منفياً في سيبيريا في شروط سكن ومعيشة لا يحتملها أقوى الأصحاء، ولكن روحه المتوثبة كانت على الدوام إلى جانبه تشد أزره وتفتح أمامه كوة الأمل، وتشحذ قواه الروحية ولم تكن له مطالب كثيرة من دنياه اللّهم إلاّ أن يكون كاتباً يشار إليه بالبنان، وقد كان له ما أراد، ومع الأسف أنه لم يستمتع بنجاحاته اللافتة فقد كان رأيه فيما ينجزه مخيبّاً لاَماله منذ البدء حين كتب (مضت ثلاثة أعوام على عملي في الأدب، إنني في ذهول تام، لا أتبيّن شيئاً ولا وقت لدي للتفكير. لقد خلقوا لي شهرة تدعو إلى الشك، ولا أدري إلام يطول هذا العذاب). الكاتب الحق يستشعر نواقص عمله، ويدرك أن في خزائنه الكثير ممّا لم تصل إليه مجسّاته، إنه يحتاج دائماً إلى العمل المضني لصناعة الشخوص وتجسيد الأفكار وإدارة الحوار وتقليب كل أمرٍ على وجوهه المائة، ذلك أن الحياة المسّطحة لا تبدو كذلك إلا لصغار الكتبة الذين يمتلئون بالغرور إذا ما خطوا نصّا مشكوكاً في أصالته، وهذا الغرور هو أفضل عقاب لتلك المواهب الجافة، لأنهم لا يعمدون يتطلعون إلى القمم العالية فيكفون الناس مؤونة البحث والسؤال عنْهم، والأصالة عند دوستويفسكي تنبع من الذات الفردية والوطنية والقومية. إنه يدرك الخصائص التي تميز أكثر من تلك التي تتشابه: (مهما تكن الفكرة الواردة غنية، فإنها لا تتجذر فينا، ولا تتكيّف مع مناخنا، وبالتالي لا تفيدنا فعلياً، إذا لم تبنعث ذاتياً من صميم حياتنا القومية انبعاثاً طبيعياً وعملياً يستشعر الجميع ضرورته، ويقرّون عملياً بالحاجة إليه، لم تُح أمة في العالم، ولم يشد مجتمع مستقر استناداً إلى معطيات مستوحاة من الخارج).
كانت القارة الروسية في ذهن دوستويفسكي وهو يخطّ هذا الكلام، وكانت في حالة مخاض في النصف الثاني من القرن (19) على حافة أوروبا الرأسمالية وأواسط اَسيا الغارقة في ضباب التاريخ، فيما النخب الروسية تتحرقّ شوقاً إلى التغيير والأفكار تهبّ من الخارج كالعواصف الثّلجية، وما أن تصل إلى بطرسبرج حتى يجري التهامها في محاولة لهضمها واستنباتها في الرّوح الروسية التي هي أقرب إلى الشرق وألصق بالغرب، لذلك طالما بدت كعربة يجرها حصانان في اتجاهين مختلفين، وإن كان دوستويفسكي قد رأى النصف الممتلئ من الكأس والذي تعبر عنه عبقرية الجغرافيا الروسية الجامعة (إن التناقضات الأوروبية كافة إنما تجد حلها في الفكر الروسي، وقد اتضح لي هذا منذ زمن بعيد) أليست هذه الفكرة هي نفسها التي حملها الشيوعيون الروس ووسعوا مداها لا ليشمل أوروبا التي استعصت عليهم، ولكن ليشمل العالم الخارجي من عباءات الاستعمار الغربي، وكانت الفكرة العابرة للحدود (القوميات) موحية أشد الايحاء وقد طبعت الجانب الأكبر من القرن العشرين بطابعها، قبل أن تنحسر بسبب الجمود وغياب الاصالة عن التطبيق وانقياد الايديولوجيا لمتطلبات السياسة. لقد احتوى دوستوفيسكي في رواياته هذا العالم المضطرب ولكن في إطار رفيع من الفن، مايزال يهز القرار حتى اليوم، وفي أعماله الخالدة (الجريمة والعقاب) (الأخوة كرامازوف) (بيت الموتى) (الأبله) وغيرها كثير متعة وأيّ متعة لم تخبُ مع الزمن ولم تطاولها أيدي الحدثان.