يرابيع ولكن في ألمانيا

خصصت بلدية تسولبيش هوفل القريبة من كولون في ألمانيا حوالي نصف مليون دولار لإعادة توطين عائلة من «اليرابيع» القوارض.. تعيش في أرضٍ تم اختيارها لبناء مجمع سكني كبير، وقد فرضت دائرة حماية البيئة في المدينة على البلدية أن يتم انتقال اليرابيع إلى موطنها الجديد طوعياً وعدم ترحيلها بالقوة أو بالخداع.

ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد عادت إليّ ذكرى من الطفولة لكلب القرية الذي أمضى عمره في كفاح مرير لإخافة الغرباء من البشر والحيوانات وخاصة الذئاب التي تقتل الأغنام والثعالب التي تخطف الدجاج، وكنا نسميه «كلب الحبيل» والجبيل هو الفسحة المشتركة من الأرض بين البيوت، أي أنه لم يكن كلباً يخص منزلاً معيناً وسكانه وإنما هو في خدمة الجميع يذب عن الأمن بكل طاقته كأنه معني بالمثل العربي القائل: «تعدو الذئاب على من لا كلاب له»، وكان الكلب يتبسط معنا نحن الأطفال آنذاك فيجري معنا كأنه يسابقنا فنأنس إليه كما أنس إلينا، وهو لا يكاد يفارق عيوننا، فإن لم نره نسمع صوته، ولم يكن يحصل على رعاية خاصة فهو يقنع بالكفاف من الأكل ويرتاح حيثما اتفق ولم يفكر في يوم من الأيام أن يرحل إلى مكان آخر بعيداً عن أصحابه وموطن نشأته.

ولم يكن ينافسه في الشهرة سوى الكلب «سيجر» الذي سُمّي على اسم أحد المعتمدين البريطانيين في المحميات الشرقية لجنوب اليمن في الخمسينيات وقد اشتهر بالقسوة والدهاء مما عرضه لطعنة كادت تودي بحياته من أحد المواطنين، ولم يعد بعدها من بريطانيا لأن «الذي قرصته الحية يخشى من جرة الحبل» كما يقول المثل، ولكن سيجر على عكس كلب «الحبيل» كان يلقى عناية خاصة لأنه في ملك إحدى الأسر، وكان بإشارة من العين يذهب ركضاً إلى الحقول البعيدة يبات الليل لحمايتها من الأخطار ومع أول أضواء الفجر يعود مزهواً يتبختر. ما علينا فقد دارت الأيام وشاب كلب الحبيل حتى وصل إلى أرذل العمر، ويبدو أنه كان يعاني من آلام في منطقة لا تعرف الطب البيطري فيظل ينبح بصوت أجش باكٍ فما كان من أحد الكبار إلاًَ أن قام بربطه إلى صخرة وأمر الأطفال برميه بالحجارة حتى الموت وبهذا جوزي جزاء سنمار الذي بنى قصراً عجيباً لأحد الملوك وبعد أن أكمله كُتف وقُتل ودُفن في العراء بجانب القصر حتى لا يعرف أحد سر البناء أو يبني مثله لملك آخر.. ولو أن صاحبنا الهمام أطلق على الكلب رصاصة الرحمة لهان الأمر ولكنه استكثر ثمن الرصاصة فعرضه إلى موت بطيء لم يزل يؤذي ضمائر الذين شاركوا فيه من الأطفال إلى اليوم، ولكن قصة الحيوانات في العالم العربي هي جزء من قصة الإنسان، فالآدمي الذي لا تحترم حقوقه ولا آدميته لا ينتظر منه أن يحترم حقوق الحيوانات وحقوق البيئة ومختلف أنواع حقوق الحياة.

أما «اليرابيع» في ألمانيا فقد وصلتها بركات حقوق الإنسان لأن دوائر الخير تتواصل وإليكم بقية التفاصيل حيث سبق أن جرى نقل العائلة المكونة من 60 يربوعاً من موقع بناء أقدم لتعيش على سبعين هكتاراً من الأرض علماً أن المواطن الألماني يعيش على متوسط 20 متراً مربعاً فيما يعيش الأجنبي الوافد على متوسط 4 أمتار، وآنذاك تم اصطياد العائلة ونقلها بدون رضاها وهو ما تلافته حماية البيئة في أمر النقل الجديد، وقد وضعت خطة النقل على مراحل أربع: تتم في الأولى زراعة حقل قريب بالجزر والقرنبيط وغيرها من النباتات التي تفضلها اليرابيع لاستدراجها وفي الثانية تشق طرقات خاصة لتسريع حركة اليرابيع بين موطنها والحقل الجديد وفي الثالثة يجري تسوير موقع البناء بما يمنع عودة العائلة أما الأخيرة فيجري التفتيش الدقيق في الموقع القديم مخافة وجود يربوع متشدد مختبئ يرفض الانتقال وتكلف هذه الخطة حوالي 50 ألف دولار، كما سيتم تعويض الفلاحين أصحاب الحقل الجديد بمبلغ 280 ألف يورو خلال العشرين عاماً القادمة، وقد وصف عمدة المدينة اليرابيع بأنها «أكثر سكان ألمانيا كلفة من حيث الإقامة».. ألا تعتقدون معي أن كثيراً من البشر الهائمين على وجوههم يتمنون لو كانوا من فصيلة اليرابيع.. ولكن.. في ألمانيا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s