
مازال «الفضول» عبدالله عبدالوهاب نعمان عقب مرور 26 عاماً على رحيله في مثل هذا الشهر الكريم بتاريخ 14 رمضان 1402 هـ يتلألأ في ضمائرنا ووجداناتنا وشعاف جبالنا وأغوار ودياننا ومدارب السيول وأفواف الزهور وعيون العشاق ودموع المحرومين المحزونين كما لم يستطع أي مبدع آخر في جيله ان ينافسه أو يكون بجانبه فرس رهان؛ ذلك أن ينابيعه لم تكن في وارد العموم ولا حتى خصوص الخصوص فهو أشبه بالطفل العبقري يرى ما لا ترى العيون ولذلك يتسم شعره بالدهشة البريئة والقدرة الفائقة على إعادة الخلق فإذا ما وقعت في يده حصاة شربت من الأمطار واستضاءت بالبروق تحولت إلى زمردة انيقة على صدر المحبوبة الولهى ، وهو ليس بحاجة إلى الشهادة من أحد ، فمن زكته الحقول والشلالات وبيادر الحب المحلقة بأجنحة الملائكة لا يحتاج إلى تزكيات النقاد وأظنه كان ضنيناً بغرره على الكتابة والكتاب، ولكننا اليوم أحوج ما نكون إليه، إلى روحه الموقدة الجامعة إلى غضبه الهادر وتسامحه الوسيع ومفهومه لوطن المحبة السالك إلى الخير والنافر من الضير
كم سنبقى في ثنايا عمرنا
لا يلاقي الخير فينا مأمنا
ليس يدري علمنا كم بيننا
سبع أغفى وصل كمنا
أيها الناس أضيئوا مرة
وهبوا للحب فيكم وطنا
إن بيتاً بألف بيت مما يعدون : أيها الناس أضيئوا مرة .. ومن أضاء مرة ، وعرف الحب، هل يرجع إلى الظلام ياعبدالله ؟ أن تهب الحب للوطن فهو تحصيل حاصل كحبك لنفسك أما أن تهب الوطن للحب ، فقد جعلت منه محيطاً لعاطفة سامية لا تنضب مياهه فهو يطلق سحب العرفان والتنوير على طريقة «المعري» عاشق الوجود الأعظم القائل :
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
لم يكن الفضول يكتب شعره من الذاكرة اللغوية مما لا يسيغه جمهوره الواسع سعة الاستماع للأغاني التي حملها صوت أيوب طارش بحزن فلاح مطرود من بيته وأرضه وعذوبة صوت مقرىء يتذوق المعنى القريب ويهيم في المعنى البعيد يلاحق بحبال صوته الضوئية عله يصل إلى سماوات صاحبه حيث اللغة البكر والمعاني اليتيمة ، كان يكتب خطفاً كضوء البرق من ذاكرة بصرية وسمعية بالغة الرهافة والبساطة والتعقيد ، هي من السهل الممتنع ؛ لأن «الخلطة» لا تباع في الأسواق كالأكلات الرمضانية فيعاد انتاجها. لذلك فعبدالله عبدالوهاب نعمان شاعر لا يتكرر وانما يهتدى به كالنجوم، وثقافته العميقة تظهر في الوشي أما النسيج فللعبقرية التي تصرعه فيكتب كمن يهذي في حال الذهول كما أشارت إلى ذلك محبوبته وزوجته عزيزة أمين عبدالواسع نعمان حيث ذكرت أنه كان يكتب بين اصدقائه الخلص فلا يسمع عم يتحدثوت وماذا يقولون؟ وهي من حالات الاستغراق في منازل الوحي الشعري لدى الملهمين لا النظاّمين وقد ذكر في بنائه للقصيدة بمعلمي البناء للحصون اليافعية في قمم الجبال السوداء ، فهم يستغرقون في حسابات المدماك ووضع حجر الزاوية والباقي كله تفاصيل ، وهكذا الفضول في قصيدة يختطف الومضة السانحة من وادي عبقر ثم يكسوها لحماً من لحمه ونزف روحه.
————————
2
اندلعت نيران «الفضول» الشعرية من اليتم القهري بفعل فاعل لا بتقدير المولى الذي تطمئن إليه النفوس وتسلم بمشيئته ، فقد نُزع منه والده بسلطة الارهاب الإمامي، وظل جرحاً غائراً في أعماقه، اضطره إلى تشرد مؤلم انتزع منه سنوات صباه وشبابه الباكر بين رغبة في الانتقام وعجز عنه، وهذا أجج الموهبة التي بحثت عن متنفس في السخرية من السلطات وإلى حدٍما من الحياة والأحياء وبارتقاء الوعي وصاعقة الإلهام الانساني باكتشاف المرأة- النموذج تحولت كل السيول إلى الحب فاستعاد الشاعر الحقول والطيور والزهور والشلالات وأنسام البكور والأصائل ليؤطر الهوى الذي جمع كل الأهواء وبلسم كل الأدواء وهون كل الأرزاء، حتى الوطن وجد سكنه وألمه في تلك الواحة الظليلة التي احتوتنا جميعاً في أفيائها وهي تتردد بصوت «أيوب» الذي زاملته في المعهد العلمي الاسلامي بعدن وكنا في صف واحد وأستطيع أن أقول:إنه كان تجسيداً لحالة يتم بالغريزة، شديد الوداعة، بالغ الخجل، يمشي على الأرض هوناً، كأنه يأتم بقول الخيّام:
فامش الهوينى إن هذا الثرى
من أعين فاتنة الاحورار.
ولم يكن يتجلى روحياً وإنسانياً إلا حين يرتل القرآن الكريم صباح كل يوم في الاذاعة المدرسية بالتبادل مع زميلنا علي محمد العولقي صاحب الحنجرة القرآنية الثرية والذي تخطفه الموت في القاهرة في أول الشباب وفي لحظة انتهاء أيوب من الترتيل كنا نرى وجهه الثاني غير اليتيم قبساً من نور خاطف وعينين واثقتين، وخُطى كأن صاحبها يسير في الجو لا على التراب.
وأظن أن اليُتم بالقهر وبالغريزة هو الذي قرن نجم الفضول إلى نجم أيوب ولك أن تسميه «الظمأ العاطفي» تبعاً للأديب محيي الدين علي سعيد في دراسته الرائدة الموسومة بــ «الظمأ العاطفي في شعر الفضول وألحان أيوب..» وتجليات اليتم النورانية في موهبة الصوت الأيوبي وتجذر الموروث الثقافي في آل النعمان انعكاساً في مرايا المواهب المتعددة لعبدالله عبدالوهاب نعمان «الفضول» قد جعلت من الخليلين – التوأم شدى ولُحمة الأيقونة الفنية التي أخذت اليمنيين على غرة كبرق خاطف في سماء ممطرة أعشبت بمياهها الأرض لتتجلى المدرسة التعزية التي أغنت الذائقتين الشعرية والغنائية ليمن الهديل الذي يصدّر من الأغاني التي لا تنضب أكثر مما يصدر من براميل البترول الناضبة، وقد ارتبط الفضول وأيوب في الوعي العام ارتباط الهوى الذي لا فكاك منه في بيتي الشعر الصّوفي:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان سكنا بدنا
فإذا كلّمته كلمتني
وإذا كلمتني كلمتنا
«الفضول» شاعر مبدع «يهجل» على السليقة كأن في عروقه ملايين الفلاحين الشعراء الذين تعاقبوا على الأطيان والشواجب والسبول وبثقافته المتنوعة وعبقريته في إنشاء الأبنية الشعرية في قوالب موروثة أو مبتكرة يستطيع بسهولة تلوين الأغراض الشعرية بين الحب والسياسة ومدح من يحب وهجاء من يكره «الخ» لذلك يبدو ومن العسير بل وغير المجدي العكوف على تفكيك خيوط قصائده لتصنيفها في خانات المعنى، لأنها إما واضحة السبل دون قراءات أو اضافات وإما حمّالة أوجه تترك للقارىء والمستمع حرية ضمان المعنى الذي يرغبه كما في «حسنك لعب بالعقول».
«حسنك لعب بالعقول وأنا مروّح ضحية
عنك حديثي يطول فاسمع حديثي شوية
شلت ترابي السيول وراح زرعي عشية
وأنا معك في ذهول أمشي على حسن نية
مدريش ماذا تقول عيونك البابلية
واسمع رنين الحجول مثل الأغاني الشجية
وحليتك عقد لول وقامتك يافعية
وتحت نحرك حمول فواكه مستوية
لاحظ المعنى في البيت الثاني كيف يمكن أن «يرجُم بك» إذا وقفت على هاوية المعنى الحرفي.
————————————
بين يدي الفضول (3)
ما كان أكثر أحزان الفضول، وما كان أكثر أفراحه، كانت أحزانه لنفسه لا يشاركه فيها أحد، أمّا أفراحه فللناس، يرسلها بأجنحة القصيدة على الأثر، كان كله اشتياق، يطارد السّراب في الطفولة الضائعة، والوديان المسافرة، والجبال المهاجره، والوجوه المتألّمة. ولم يكن يعوّضه غير مواليده الشعرية السخية، وسخرياته النثرية والإرتجالية الشقيّة، وأسلوب حياته الصّادم المقاتل، فقد كان في حرب مع نفسه إلى جانب حروبه الكثيره، مع تشوّهات الواقع والسّحالي اللصيقة بالجدران التي تلوّث مياه الينابيع، تخسف قيم الجمال، وتنتزع الأحلام الجميلة من أعين الصّبايا. كان الفضول حالماً كبيراً في زمن جاف متصحّر، وقد ساعدته مواهبه على عبور “التيه” اليماني بين الأربعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ولكنه لم يَسلم من الجراح، ومن عوارض العقوق، ومن تجاهل العارفين، أما الجُفاة من الجهلة فقد كان كفيلاً بهم، يسير بمحاذاتهم وهو يدقّ الأرض كأنما فوق رؤوسهم، ولم يكن ليترك لهم الوطن الحقيقي إلاّ إلى وطن افتراضي يجسّد فيه رؤيته الصافية إلى مملكة الحب على الأرض، حيث التماهي مع الطبيعة التي تعيد صياغة الإنسان، كالخَلْق الأول، وثدي الأم، ودفء القرية التي لا تقترب منها الغربان:
لاشيء في روحي سوى اشتياقي=للنهر للرعيان للسواقي
ولهفتي لفرحة التلاقي=لمن فؤادي في هواه باقي
شاعود للخلاّان والأحبّه=شاعود يكفيني شجن وغربه
شاعود للأشجار والعصافير=ملوّنات الريش والمناقير
وللحمام البيض والشّحارير=وللمواشي السائمات والبير
راجع لشمس الصّبح والمغارب=راجع لبرد الظلّ في الشواجب
شبّابة الراعي افصحي وهاتي=ورددي لحني واغنياتي
لفجر عمري لصبا حياتي=لقريتي لجدولي لشاتي
عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) لم يغادر جلباب الطّفولة هنا، ولن يغادره في أي وقت من الأوقات، فكل الأشياء الإلهية البريئه تصحبه في سفره الطفولي، وكهل طفلاً، ورحل عن دنيانا وهو طفل القرية التي رسمها قلبه وعلى عينيه وحملها معه شأنه شأن شعراء الرومانس الذين هاموا بالرّيف وبحزن الريف، الذي يختلف عن حزن المدينة، فهو حزنٌ مرتبط بعاطفة الأم، وآلام فطامها، وما يحمله الغروب من مغاور عميقة لا قاع لها، وما يأتي به الشروق من أمل متجدّد يمحو كآبة الليل وكوابيسه، أمّا ساعات الأمطار والرعود والبروق، وأصوات تدفّق السيول، فهي تقع في مساحة بين النوم واليقظة، تشبه مخاض الشعر وهواجسه، وارتعاشات الروح حين تعثر على ما يشبهها في اللغة:
لمع البروق على الجبال الاحيوق=خلّى الجبال تنزل رماد مسحوق
صورة غير مسبوقة لخيال مشبوب، وموهبة ثلاثية الأبعاد، تسمع وتشم وترى، كأنها (زرقاء اليمامة) في استجلائها لغيوب الجغرافيا، هل رأيتم برقاً يجعل رؤوس الجبال رماداً مسحوقاً، ثم لا يلبث أن يُعدن صخراً، ولكنه أشف من نقاب الحسناوات العذارى:
هذي الجبال الشامخات الأركان=من خلفها وجه الحبيب قد بان
وما بين رماد بروق الجبال التي تسدّ الآفاق، ووجه الحبيب الذي يضيء الأرض ترتسم صورة وادي الضباب الذي تصبّ فيه جميع الأخيلة كأنه صورة اليمن السعيد في سرّائه وضرّائه، في فرحه ودموعه، وفي خصبه وجدبه:
وادي الضباب ماءك غزير سكّاب=نُصّك سيول والنص دمع الأحباب
نصّك دموع من عين كلّ مشتاق=تجري على خدّه دموع الأشواق
مثلي أنا والعشاقين مثلي=كم أطلقوا نهر الدموع قبلي
“خلّي بالك من “مثلي أنا”” فهذا الطفل العاشق يطارد نفسه ويلوعها بالعشق، وما كان لها أن تهرب منه، وقد أودعها وادي الضباب لتسكنه إلى الأبد.
————————————
4
أنت مع شعر «الفضول» في طرب ينثال كالأمطار، فحنجرته مجرّد، «مايسترو»، أما الأوركسترا العظمى للموسيقى فتقوم بها الجبال والوديان والسيول والأزهار والثّمار وثمّة نغمات حزينة تتدفّق وسط مهرجان الفرح الطبيعي متسرّبةً من قلب الشّاعر ووجدانه المجرّح وعدم إحساسه بالأمان وهي تمنح الفرح وشيئاً من الخلود ومذاق المعاناة الإنسانية البكماء والناطقة، وكلاهما الفرح المصفّق والحزن الخجول الذي لا يتنازل عن مظلمته في هذه الحياة التي يغص الناس بها أكثر مما ينهلون، ولكنهم تعوّدوا على إظهار السرّاء، وإخفاء الضّراء، حتى لا يساؤون من نظرة شامتة أو غمزةٍ جاحدة، أقول: كلاهما الفرح والحزن هما أفخر صنفين على مائدة الفضول الشعرية التي لم تخترق بعد أدمغة المبدعين اليمنيين وتأخذ مداها العربي إلى ما لا نهاية، فعلى كثرة ما قرأت للشعراء العرب القدامى والمحدثين لم أجد من يشبه عبدالله عبدالوهاب نعمان «الفضول» في قدرته على خوض أعسر الحروب وهي حروب الجمال تصدر عن العيون النُّجل المسدّدة والقلوب المفعمة بأشواق الوصال. وذلك الظمأ العاطفي الذي اختاره محيي الدين علي سعيد عنواناً لكتابه الرائد عن «شعر الفضول وألحان أيوب» والذي لم يقدّر له – أي الظمأ – أن يُغاث ويرتوي من ينابيع الحب التي تتدفّق كالسراب وتتسرّب كالأحلام عقب الاستيقاظ.
الفضول رابط على خطوط جبهة الحب في منزلة بين المنزلتين «يكرع» من ينابيع الأحلام ويجالد السراب كما كان «دونكيشوت» في رواية الإسباني «سرفانتس» الخالدة يحارب طواحين الهواء.
لطالما خطر في ذهني أن «الفضول» في رباطه يشبه المحاربين الليبيين من جماعة عمر المختار في فيلم المغدور ظلماً وعدواناً مصطفى العقاد.. حينما كانوا يُعقلون سيقانهم من الركب كما تُعقل الجِمال حتى لايهرب أي منهم من المعركة، فليس أمامه سوى النصر أو الشهادة، ومن موقعه على تخوم الحب الذي لا يكف عن الهجوم عليه، فإن لم يهجم الحب هجم «الفضول»، كان يرى الطبيعة إطاراً لا أبدع ولا أجمل ولا أنقى لهذه الملحمة الإنسانية التي سيعتقها الزمن لتتحول إلى أسطورة «كليلى والمجنون» أو «روميو وجولييت»، ولاتزال تفاصيلها تنتقل من شفة إلى شفة ومن قلب إلى قلب، ومن وتر إلى عود، ومن لحن إلى طرب حتى تكتسي لحماً وعظماً وينبعث «الفضول» بألقه وإنسانيته العابرة للخيال العربي العاشق من امرىء القيس حتى اليوم، ولذلك فمن الظلم المبين حصر الفضول أو بالأصح حشره في محدودية لا تتسع له، باعتباره مؤسس المدرسة «التعزية» في الفن اليمني، فما هذه إلاّ شذرة من قدرته الهائلة على التّحليق، وما اشتغاله على الغناء بمساعفة أيوب طارش الذي حدوده «المدرسة التعزية» فعلاً وفي ذلك الفخر كل الفخر له كرائد، إلا غيض من فيض، فمجنون ليلى لم يؤسس المدرسة «العامرية» في الغناء الشعري العربي، وإنما أشرق على القلوب العاشقة في كل مكان وزمان، وكذلك هو عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول:
مدارب السيل قولي وامدارب لَمِ
لايقدر السيل أن يروي القلوب الظما
مهما مسيلك سال دافق ومن
صدور ضاحات الجبال أرتمى
مكانني ظمآن.. شق الظما قلبي
وأشعل في عروقي الدماء
والشوق لا يطفيه شنّان ماء
والحب لايرويه ماء السماء
واغادية فوق الرُّبي والهضاب
سحاب نفسي ظامئة واسحاب
وأنت تروي من سيولك شعاب
وانا معاهن أستقى إنّما
مكانني ظّمآن
ونحن نقول للفضول – طيب الله ثراه – لقد أهديتنا أجمل الظمأ.. وهل يطيب الحب إلاّ به؟