كلما زرت الفاتنة «تعز» ونظرت إلى جبلها المنيف «صبر» المتدثر ببعضه البعض، كلما داويت جرحاً سال جرح، أقول له ما كان يقوله أستاذنا عمر الجاوي: «إذا لم يأتِ هذا الجبل إليّ فلأذهب أنا إليه»..
ولأن الجبل لا يأتي إلا شهقة في قرارة الروح؛ فإنني دائماً أذهب إلىه، فأجده بعافية، لم يزد عن أمس إلا إصبعاً كما يقول المجنون.
أما أهل الجبل فلا أراهم كذلك، فحين لم تكن لديهم طريق، كانوا يهبطون إلى المدينة كأنهم الأقمار تهبط من السماء بملابسهم الملونة والمشاقر المعطرة والسمن الجبلية التي صقلها الصعود والنزول والقفز من صخرة إلى أخرى.
أما حين صعدت المدينة إليهم عبر الإسفلت فقد نزعت عنهم الروح، وعلّمتهم أخلاق الجحور في مدارب السيول بعد أن كانوا يتحلّون ببهاء النرجس في مهب الأنسام.
ما علينا فلا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب في أتربة الدروب، ذلك أن من رأى بعض جبال الدنيا الأقل عظمة من «صبر» ورأى ما فيها من بدائع الجنان، من صنع الإنسان، لا يفقد الأمل في أن جبلنا الأثير سيكون له شأن سياحي؛ وأي شأن في يوم من الأيام، إذا صلحت العقول وطردت الغربان من الحقول.
وقد سألت بعض الأحباب عن أخبار «التلفريك» التعزي الذي نشرت عنه الصحف وكأن عرباته قد وصلت إلى الباب، فابتسم صاحبي وهو يحاول جاهداً ألا تكون ابتسامة سخرية حتى لا يؤذيني ـ جزاه الله ألف خير ـ وقال لي: يا ابن النقيب، عاد ربنا بايهديك، منذ متى تصدق كل ما يُنشر، وأنت المخضرم في الإعلام منذ أربعين عاماً؟!.
قلت له: أكل ذلك كان «مخضرية» على حد تعبير عمنا المشير/عبدالله السلال «رحمة الله عليه»؟!.
قال: قل هو كذلك وتوكل على الله.
قلت له: أزيدك من الشعر بيتاً وأروي لك رد المشير عندما سُئل: متى تصلح السياحة في اليمن؟!.
قال: عندما يصير «مخروج» الكلب حلاوة!.
وقد رافقت يوماً وفداً عربياً وأجنبياً إلى إحدى المحافظات السياحية السابحة فوق السحب، وكان الطريق طويلاً، فاحتجنا إلى الحمام «زي الناس» على قول أهل الخليج، وبيننا نساء مثل القمارى، وكان أن تكرم السيد المحافظ بالسماح لبعضنا باستخدام حمام مكتبه.
«الله لا روّاكم» قلت: كيف يُصلح السياحة من عجز عن إصلاح حمامه الشخصي؟!.
إن بعض الأمور الكبيرة والخطيرة لا يمكن فهمها إلا عبر الأمور الصغيرة والحقيرة.
وفي محافظة أخرى يعج ديوانها بالرشاشات والخناجر والقنابل والوجوه التي تقطع الخميرة؛ أكرموا وفادتنا بغداء يبدو أنه مجمع من بيوت «الرعية» ثم أجلسونا على حصباء بما في ذلك السيدات، ثم تبرعوا ـ رعاهم الله ـ بالحديث عن عاداتنا العظيمة؛ بينما عشر أياد مقربة تخوض في مدرة العصيدة ولا تسأل عن الخبر النبيت: على حد المعري، فيما صابون غسل الأيدي من التايد الذي اصفر واسوَّد لا أدري من ماذا؛ مما ذكرني بنكتة الشهيد/جميل جمال عندما رأى الكدم العادي للمرة الأولى بعد قدومه من بغداد، فسأل عما تكون؟! فلما شرحوا له قال: أظنها قد أكلت من قبل!!.
وأرجو ألا يكون الكلام من قبيل جلد الذات، ولكن موضوع السياحة يحتاج إلى «ثورة» طنية وتوعية شاملة وتسهيلات صادقة وريادة للدولة وإلا «نبطل» أحلام العصافير ونستشهد بقول الخفنجي:
إن مشى ديانة على مبدأ صحيح.. أولا فقطع الطريق والله كريم.
ويقول المثل اليافعي: «رقصة بناموس وإلا خير بطالها».. وليغفر لي جبل صبر حبي وألمي.
وكل “تلفريك” وأنتم جميعاً بخير.