فيدل كاسترو

فيدل كاسترو
فيدل كاسترو

مثـّل كاسترو جيلاً من الثوريين الذين ينزعون إلى تغيير العالم بنضال لا هوادة فيه ولا أنصاف حلول ولا تنازلات، وقد اقتضاه هذا النهج دفع أثمانٍ باهضة لم يتردد يوماً في دفعها، وكان حليفاً موثوقاً للمعسكر الإشتراكي عموماً وللإتحاد السوفييتي على وجه الخصوص، وحين اقتضى الدور أن يتكلف بأعمال عسكرية في العديد من الدول الإفريقية لنصرة الثورات الوليدة والحركات اليسارية أرسل جنوده وضباطه المحترفين الذين أبلوا بلاءً مشهوداً في مقارعة الغرب ودحر فيالقه، والشاهد أنه لم يكن عالةً على موسكو رغم مساعداتها غير المحدودة له، وإنما كان بمثابة رأس رمح متقدم. وفي أميركا اللاتينية – وخاصة تلك الناطقة بالإسبانية – يعتبر فيدل كاسترو الأب الشرعي والملهم الفذ لأجيالٍ من المناضلين، وقد كان لرفيق كفاحه أوّل وزير للصناعة في كوبا شي جيفارا فضلٌ كبير وشرفٌ غير مسبوق في إضفاء هالة أسطورية وبريق رومانسي عمّ العالم على حركات التحرّر، ولطالما اعتبر ممثلاً في نضاله لكوبا وزعيمها فيدل كاسترو الذي يؤمن إيماناً عميقاً بتصدير الثورة والتضامن الأممي. وحين انهار الإتحاد السوفييتي والمعسكر الإشتراكي – في ضربة صاعقة فاجأت حتى أعداءه – ظن كثيرون أن نظام كاسترو في الطريق إلى المصير ذاته، ولكنه عقد العزم على أن يكون أو لا يكون… فكان. وقد وقف تلاميذه الجدد الذين أصبحوا حكاماً مقارعين في أميركا اللاتينية أمثال الزعيم الفنزويلي شافيز الذي يمد كوبا بحاجاتها من البترول بأسعار مخفضة وشروط ميسرة.
إن كاريزما كاسترو الذي يتميز بالبساطة والصلابة والمبدئية قد ألهمت ملايين الناس حول العالم، فإذا أضيف لها السحر الذي جسدته شخصية رفيقه تشي جيفارا فلك أن تتخيل الأثر في نفوس أجيال ترزح في المعناة والبؤس وصنوف الحكم الفاسد، لقد قدّما الأمل، وهو أعظم ما يمنحه إنسانٌ لغيره، وقدّما النموذج، وهو مَضّاءٌ أكثر من الأيدلوجية المجردة، ثم صابرا ورابطا حتى كتب جيفارا أسطورته بدمه، وحتى بلغ كاسترو الثمانين من عمره دون أن يرفع الراية البيضاء، وهذا سرّ العداء الأميركي الحارق لكوبا وثورتها، فإن تعيش في أطراف غابة الذئاب دون أن تتمكن منك، فإن ذلك يصيبها بالسُّعار. ولقد استطاع كاسترو بمواهبه القيادية الفذة أن يدفع شعب كوبا إلى تحقيق منجزات وفتوح علمية، حتى أنه في مجال الطب تعد الجزيرة من بين الأفضل على مستوى العالم، وذلك لا يأتي من فراغ، وحين سؤل أخيه راؤول كاسترو عما سيحدث في البلاد بعد موت فيدل أجاب “من المستحيل معرفة ذلك، فمن الصعب أن يحل مائة أرنب مكان فيل قدير”.
إن كاسترو المناضل قد أبلى تجاه المرض أيضاً، فهو يعاني من سرطان الدم، ومن باركنسون، وكما لم يرفع الراية البيضاء للأعداء فلم يرفعها كذلك للمرض.

يتمتع الزعيم الشيوعي الكوبي العتيد فيدل كاسترو بشعبية مفتوحة على الحياة ويبدو أنه من أصحاب الأرواح السبع، وله في هذه الدنيا ما لنسر لقمان الحكيم من حيوات متعاقبة، فقبل ثلاث سنوات وبالتحديد في يوليو 2006م تخلى عن السلطة لأخيه راؤول الذي كان وزيراً للدفاع مثبتاً بذلك حكماً شيوعياً وراثياً ليس له من نظير سوى في كوريا الشمالية، حيث الرايات اشتراكية والحكم عائلياً و”طز” في ماركس وانجلز ولينين وحكم البروليتاريا. وقيل عندئذ أن كاسترو أصيب بمرض خطير يضاف إلى أمراض الشيخوخة وما تركه الصراع مع الجار الأمريكي الكاسح القويّ – الذي لم يرفع عينيه عن الجزيرة وهو يحاصرها منذ نصف قرن – من آثار على أعصاب الزعيم الذي فجع أيضاً بسقوط الاتحاد السوفيتي حليفه الأول سياسياً وعضيده اقتصادياً، ومع ذلك فقد تماسك في وجه العاصفة وقال: “هيت لك”، ثم ربط على ركبته بطريقة المجاهدين في جيش عمر المختار، ورابط على خط النار حتى أيأس الأمريكيين الذين كانوا ينتظرون سقوطه الوشيك و”الله يضع سره في أضعف خلقه”، وخاصة لجهة فنون البقاء، وقد عبر الأزمة بأسلوب “كلما داويت جرحاً سال جرحُ”، حتى جاء باراك أوباما الذي لا ينتمي إلى الدائرة البيضاء في أمريكا من أحفاد “رعاة البقر” فخفف من إجراءات الحصار وسمح للنازحين الكوبيين بموافاة أهلهم بالمال وبالسفر إلى الجزيرة الأم، حيث يقيم أكثرهم على مرمى حجر في فلوريدا.
ولم يكن عمل أوباما من باب التفضل أو الشفقة الإنسانية، وإنما إسقاط ما هو ساقط فعلاً، فقد استهلك الحصار نفسه وسمح للنظام بأخذ نفس طويل، وإسناد كل خطأ وكل تقصير وكل تباطؤ إقتصادي إلى العدو الأمريكي وحصاره، كما وأن شعب كوبا الذي يعاني أفراده البسطاء تبعات الحصار – وليس الأقلية التي تحكم – قد حمّل الولايات المتحدة تبعات آلامه ومعاناته، وبذلك تمترس مع الزعيم و”يا قاتل يا مقتول”.
في عيد ميلاده الثالث والثمانين ظهر فيدل في صورة جديدة، وبحالة صحية جيدة، “ألم أقل لكم أنه بسبعة أرواح”، ويبدو أنه قد أصبح بعيداً عن السلطة أكثر منه نفوذاً عندما كان في معمعانها، حيث أصبحت “هافانا” محجة لزعماء أمريكا اللاتينية اليساريين الذين يفدون إليه تباعاً للزيارة والإطمئنان، ولأخذ شيء من وهجه التاريخي ونصائحه التي يبذلها بلا حساب شأنه شأن أي أب يريد لأبنائه الصلاح والنجاح ولنفسه “حُسْن الخاتمة”. وقد استعاض الآن عن تلك الخطب القاصمة للظهور والتي كانت تستغرق الساعات الطوال مع أن العرب يقولون “خير الكلام ما قل ودل”، إلا أنه يبدو أن للاتينيين رأياً آخر وربما كانوا على نهج المثل المصري من أن “الزن على الودان أبلغ وأمضى من السحر”، أقول استعاض فيدل بالكتابة وهي أدعى إلى التركيز ومخض الخلاصات، وهذا يدل على أن انشغاله بالسياسة لن يبارحه، فهو معه من المهد إلى اللحد، ثائرا وخطيبا وكاتباً، وقد كتب قبل أيام “إن أفضل شيء دائماً هو أن تكون لك قضية عادلة تدافع عنها والأمل في المضي قدما”. وواضح لمن يتابع حركة التحولات والتبدلات في المجتمعات البشرية عبر التاريخ أن القضايا العادلة هي بين أبرز المحركات للثورات، ولكن من يضمن ما بعد النجاح، حين تبدأ الثورة تأكل أبناءها كالقطط المسعورة، وحين تصبح السلطة – التي كانت هدفاً للرمي بالحجارة – هي الجائزة وهي الغاية واحتكارها تزهق في سبيله الأرواح وتسفك أنهار الدماء، فتتحول العدالة إلى ظلم بعد أن يتلاشى الحكماء الذين خططوا، ويقتل الشجعان الذين نفذوا، ويخلوا الجو للانتهازيين الذين يغنمون الثورة باردة مبرّدة. البشرية تعيد إنتاج مآسيها بأسرع مما يتصور الثوار المثاليون فيتهاوى أصحاب “الفوق” ويصعد أصحاب “التحت” في دورة لا تنتهي وقد جاء التداول الديمقراطي بحل بشري مقدور عليه لو كانوا يعقلون.
________________________________________
صوت كاسترو
يبدو الرئيس الكوبي فيدل كاسترو بقامته العملاقة، ولحيته الشهيرة، وصموده الأسطوري، كأنه آخر المحاربين الأشداء الذين رفضوا إخلاء موقعهم المنعزل، رغم انهيار الجبهة، وتوقف دويّ المدافع، وإعلان القيادة العليا للإستسلام، ورفع الرايات البيضاء.
ولأنه محارب شجارع، ورجل واضح المعالم، وصوت يعني ما يقول، فإن قادة العالم يكنّون له الإحترام والإعجاب، خاصة وأنه يقف متحدياً لأميركا التي أخافت دول العالم، وعلى بعد مرمى حجر من قلاعها النووية، وجيوشها الرأسمالية، وأجهزة إعلامها الكاسحة.
وباستضافة قمة دول مجموعة الـ 77 في عاصمته هافانا، يؤكد كاسترو أنه – وإن كان ينتمي إلى عالم قديم زالت أشهر رموزه الكبرى بانهيار الإتحاد السوفييتي، وتهديم جدار برلين – إلا أنه لا يزال نقطة جذب للحالمين بعالم تسوده العدالة والمساواة والمحبة الإنسانية.
وفي كلمته الإفتتاحية للقمة الحاشدة، إتهم كاسترو النظام الرأسمالي بالتسبب في وفيات تعادل تلك التي وقعت في الحرب العالمية الثانية، نتيجة تجاهل حاجات الفقراء.
وقال كاسترو: “إن المشاهد التي نراها للأمهات والأطفال في معظم القارة الأفريقية التي ترزح تحت الجفاف، تذكرنا بأيام النازية”، ودعا إلى إزالة صندوق النقد الدولي الذي يخدم مصالح الدول الغنية، بدلاً من خدمة الفقراء الذين فُرضت عليهم سياسات السوق الحرة مقابل المساعدات.
هذه اللغة التي يتحدث بها كاسترو لم تعد مألوفة في عالم “القطب الواحد” حيث حلّت محلها لغة الخضوع والخنوع والإستجابة المذعنة، مصحوبة بتبريرات واهية، ليسهل على الشعوب تقبل سياسات السوق الظالمة، حيث تأكل الحيتان الكبيرة الأسماك الصغيرة بكل راحة ضمير.
وقد لمس مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا نقطة حساسة في كلمته، حيث قال: “إذا كان المال هو رأسمال الأغنياء، فالعمالة هي رأسمال الدول الفقيرة، لذلك يجب أن يُسمح لها بالهجرة إلى الدول الغنية للمنافسة على العمل هناك، كما يتنافس رأسمال الدول الغنية في الدول الفقيرة”.
ترى هل ينصت الأغنياء لما يقال في هافانا؟
________________________________________

أسطورة كاسترو
عاد الزعيم الكوبي فيدل كاسترو إلى واجهات الصحف ونشرات الأخبار، وإلى مختبرات المحلّلين – وما أكثرهم – وذلك لمناسبة تسليمه مهامه جميعاً إلى أخيه راؤول كاسترو، لمرضه وخضوعه لعملية معقدة في المعدة. وقد استنتج كثيرون بما فيهم أخته المقيمة في أميركا أن وضعه خطير، كما تحدثت ابنته عن عمّها بما يُفهم منه أنه يفتقد “الكاريزما” التي كانت لوالدها، والتي جعلت منه أحد مشاهير العالم منذ ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم.
ولد كاسترو الثائر والزعيم في عين العاصفة، حين كان الصراع بين الشرق والغرب في ذروته، وطبق المثل القائل “عدو عدوي صديقي”، فصادق الإتحاد السوفييتي عبر اعتناق الماركسية، وبالتحالف في الميدان، حتى كاد أن يشعل حرباً نووية بين موسكو وواشنطن عندما نصب خروتشوف صواريخه في الجزيرة إبان رئاسة جون كيندي، وقد حبس العالم أنفاسه آنذاك، قبل أن تنفرج الأزمة بسحب الصواريخ، وتعهد أميركا بعدم الإعتداء على كوبا التي تعتبرها – عملياً – في حماها الإستراتيجي، ومنذ مطلع الستينات من القرن الماضي – حيث سحبت واشنطن سفيرها وحتى اليوم – والعداء بين البلدين الصغير جداً والكبير جداً مستعرّ، وإن كان منضبطاً، ذلك أن كاسترو – الذي اشتهر بخطاباته الطويلة جداً – كان يهاجم باللسان فقط، وما تبقى فالميزان والقسطاس المستقيم، وهذه تُحسب له، فلا شيء كالعقل والتعقّل وإجراء الحسابات الدقيقة يطيل عمر الأنظمة، وقد تعلّم من زعماء كثيرون في أميركا اللاتينية، فنجح بعضهم ورسب البعض الآخر من الذين أخطأوا قراءة الخطوط على الأرض، أو سمحوا بنشوء معارضات قوية مرتبطة بالخارج، كانت بمثابة “حصان طروادة” للغول الأميركي، الذي يعتبر القارة اللاتينية بأسرها حديقة بيته الخلفية. وقد ذهب ضحية ذلك الزعيم التشيلي اللندي، ونورييجا حاكم بنما، الذي يقبع الآن في سجنٍ أميركي دون أن يقول أحد لواشنطن بأي حق غزيتم بلده، ووضعتوه في الأسر، تماماً كما جرى للعراق ولصدام حسين، فالأمم المتحدة بالكاد تتنفس إن سُمح لها، والدول العظمى من الأعضاء الدائمين أصحاب “الفيتو” في مجلس الأمن يخشون التغوّل الأميركي، وأكثر ما يستطيعونه هو تسريب فقرة مصابة بالأنيميا إلى بيان هزيل لا يلبث حتى يذهب أدراج الرياح، كما هو حال القضية الفلسطينية.
كان بقاء كاسترو على قمة السلطة في كوبا 47 عاماً معجزة وأي معجزة، لأن الجزيرة تعاني من حصار إقتصادي أميركي مُحكم منذ قيام الحكم الحالي، وتوجّه إلى سكانها حرب دعائية وتحريضية على مدار الساعة، كما يوجد في فلوريدا بأميركا حوالي 800 ألف كوبي من معارضي كاسترو، الذين يحرّضون الولايات المتحدة على إسقاط النظام بكل الوسائل وقد تمكنوا من تشكيل “لوبي” لا يُستهان به للضغط على الكونجرس الأميركي الذي بدا أكثر حرصاً منهم على إنجاز تلك المهمة، ولذلك ما إن فشا خبر مرض كاسترو حتى تحرّكت واشنطن على أعلى المستويات وأدناها، فدعا الرئيس بوش إلى إحداث تحول جذري في حكم الجزيرة، واعداً بمساعدات سخيّة غير مشروطة، فهل سيكون كاسترو أول وآخر رئيس لهذه الجزيرة المتمرّدة، التي تنغر جنب أميركا كالشوكة؟ أم أن راؤول له رأيٌ آخر، ومن وراءه شعب ولد سبعة من بين عشرة منهم في ظل كاسترو، وخطاباته النارية؟
________________________________________

استراحة المحارب كاسترو

خرج الرئيس الكوبي فيدل كاسترو من (استراحة المحارب) المرضية التي أوشكت أن تودي بحياته، وبذلك خيب ظنون البيت الأبيض الأمريكي الذي تمنى وفاة الزعيم الشيوعي عيانا وبيانًا دون مراعاة للأعراف بين رؤوساء الدول ، وعلى أساس أن الوفاة ستفعل فعلها في تداعي هافانا وتقويض التجربة المنغرسة في الخاصرة الامريكية على مرمى حجر من (فلوريدا) لأكثر من نصف قرن من الزمان، وكعادته عاد المحارب العنيد متحديا مؤلبا لامريكا اللاتينية على واشنطن ، مما يذكرني بمقطع من قصيدة لعباس محمود العقاد ، الكاتب الشهير، إثر خروجه من السجن بعد إدانته بتهمة (العيب في الذات الملكية) قبل ثورة 2591م في مصر:
وكنت نزيل السجن تسعة أشهر=وها آنذا في ساحة الخلد أولد
عدائي وصحبي لا اختلاف عليهما=سيعهدني كل كما كان يعهد

وكاسترو لم يغيره المرض، كما لم يغيره الحصار الامريكي على مدى 50 عاما والذي وصل إلى ما يشبه الغزو في هجمة (خليج الخنازير)، التي نفذت بالتنسيق بين المهاجرين الكوبيين الناقمين على النظام والاستخبارات الامريكية، وكان مآلها الفشل الذريع ولم يفت في عضد النظام الكاستروي سحب الزعيم السوفيتي خروتشوف للرؤوس النووية في كوبا على عهد الرئيس الامريكي جون كنيدي بعد أن وصل الصراع بين العملاقين إلى شفا حرب نووية لا تبقي ولا تذر، كما لم يهتز حين تهاوت القلاع الشيوعية إثر انهدام جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي الحليف وانقطاع المعونات السخية التي كانت تقدم لهافانا. كل هذه الأحداث الجسام لم تلو ذراع كاسترو الخطيب المصقع والمقاتل الباسل الأشبه بسيف الدولة الحمداني في تشخيص المتنبي:
وقفت وما في الموت شك لواقفٍ=كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة=ووجهك وضاح وثغرك باسم

وفي مقال افتتاحي نشر في الصحيفة الرسمية (ريبل يوث) سخر الرئيس كاسترو أمس الأول من جهود حكومة الرئيس جورج بوش للتخفيف من المشاكل الاجتماعية في أمريكا اللاتينية من خلال استضافة الرئيس الامريكي لـ(150) منظمة أمريكية لاتينية، و(90) منظمة من الولايات المتحدة الأسبوع الحالي لمناقشة العمل الاجتماعي للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية فيما يعرف في (البروباجندا) الأمريكية بكسب القلوب والعقول.وقال: “إن كوبا الفقيرة تتفوق على الولايات المتحدة في مجالات المساعدة الصحية والتعليمية”، والحقيقة أن هذا واقع مشهود وليس (بنظرة) فارغة كما هو حال المليارات التي تهدر في العراق دون أن تكسب عقلاً ولا قلباً ولا حتى طحالاً أو بنكرياساً ، إن الثنائي البازغ كاسترو – شافيز يقض مضاجع الإمبراطورية التي أثبتت أن أفضل منجزاتها هي صناعة الأعداء وخسارة الأصدقاء.
________________________________________
يتمتع الزعيم الشيوعي الكوبي العتيد فيدل كاسترو بشعبية مفتوحة على الحياة ويبدو أنه من أصحاب الأرواح السبع، وله في هذه الدنيا ما لنسر لقمان الحكيم من حيوات متعاقبة، فقبل ثلاث سنوات وبالتحديد في يوليو 2006م تخلى عن السلطة لأخيه راؤول الذي كان وزيراً للدفاع مثبتاً بذلك حكماً شيوعياً وراثياً ليس له من نظير سوى في كوريا الشمالية، حيث الرايات اشتراكية والحكم عائلياً و”طز” في ماركس وانجلز ولينين وحكم البروليتاريا. وقيل عندئذ أن كاسترو أصيب بمرض خطير يضاف إلى أمراض الشيخوخة وما تركه الصراع مع الجار الأمريكي الكاسح القويّ – الذي لم يرفع عينيه عن الجزيرة وهو يحاصرها منذ نصف قرن – من آثار على أعصاب الزعيم الذي فجع أيضاً بسقوط الاتحاد السوفيتي حليفه الأول سياسياً وعضيده اقتصادياً، ومع ذلك فقد تماسك في وجه العاصفة وقال: “هيت لك”، ثم ربط على ركبته بطريقة المجاهدين في جيش عمر المختار، ورابط على خط النار حتى أيأس الأمريكيين الذين كانوا ينتظرون سقوطه الوشيك و”الله يضع سره في أضعف خلقه”، وخاصة لجهة فنون البقاء، وقد عبر الأزمة بأسلوب “كلما داويت جرحاً سال جرحُ”، حتى جاء باراك أوباما الذي لا ينتمي إلى الدائرة البيضاء في أمريكا من أحفاد “رعاة البقر” فخفف من إجراءات الحصار وسمح للنازحين الكوبيين بموافاة أهلهم بالمال وبالسفر إلى الجزيرة الأم، حيث يقيم أكثرهم على مرمى حجر في فلوريدا.
ولم يكن عمل أوباما من باب التفضل أو الشفقة الإنسانية، وإنما إسقاط ما هو ساقط فعلاً، فقد استهلك الحصار نفسه وسمح للنظام بأخذ نفس طويل، وإسناد كل خطأ وكل تقصير وكل تباطؤ إقتصادي إلى العدو الأمريكي وحصاره، كما وأن شعب كوبا الذي يعاني أفراده البسطاء تبعات الحصار – وليس الأقلية التي تحكم – قد حمّل الولايات المتحدة تبعات آلامه ومعاناته، وبذلك تمترس مع الزعيم و”يا قاتل يا مقتول”.
في عيد ميلاده الثالث والثمانين ظهر فيدل في صورة جديدة، وبحالة صحية جيدة، “ألم أقل لكم أنه بسبعة أرواح”، ويبدو أنه قد أصبح بعيداً عن السلطة أكثر منه نفوذاً عندما كان في معمعانها، حيث أصبحت “هافانا” محجة لزعماء أمريكا اللاتينية اليساريين الذين يفدون إليه تباعاً للزيارة والإطمئنان، ولأخذ شيء من وهجه التاريخي ونصائحه التي يبذلها بلا حساب شأنه شأن أي أب يريد لأبنائه الصلاح والنجاح ولنفسه “حُسْن الخاتمة”. وقد استعاض الآن عن تلك الخطب القاصمة للظهور والتي كانت تستغرق الساعات الطوال مع أن العرب يقولون “خير الكلام ما قل ودل”، إلا أنه يبدو أن للاتينيين رأياً آخر وربما كانوا على نهج المثل المصري من أن “الزن على الودان أبلغ وأمضى من السحر”، أقول استعاض فيدل بالكتابة وهي أدعى إلى التركيز ومخض الخلاصات، وهذا يدل على أن انشغاله بالسياسة لن يبارحه، فهو معه من المهد إلى اللحد، ثائرا وخطيبا وكاتباً، وقد كتب قبل أيام “إن أفضل شيء دائماً هو أن تكون لك قضية عادلة تدافع عنها والأمل في المضي قدما”. وواضح لمن يتابع حركة التحولات والتبدلات في المجتمعات البشرية عبر التاريخ أن القضايا العادلة هي بين أبرز المحركات للثورات، ولكن من يضمن ما بعد النجاح، حين تبدأ الثورة تأكل أبناءها كالقطط المسعورة، وحين تصبح السلطة – التي كانت هدفاً للرمي بالحجارة – هي الجائزة وهي الغاية واحتكارها تزهق في سبيله الأرواح وتسفك أنهار الدماء، فتتحول العدالة إلى ظلم بعد أن يتلاشى الحكماء الذين خططوا، ويقتل الشجعان الذين نفذوا، ويخلوا الجو للانتهازيين الذين يغنمون الثورة باردة مبرّدة. البشرية تعيد إنتاج مآسيها بأسرع مما يتصور الثوار المثاليون فيتهاوى أصحاب “الفوق” ويصعد أصحاب “التحت” في دورة لا تنتهي وقد جاء التداول الديمقراطي بحل بشري مقدور عليه لو كانوا يعقلون.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s