و..كسب زوربا الرهان

أخذت الشمس وقتا لا بأس به كي تتغلب على جيوش الجنرال (ضباب) في أبوظبي ، ومن يعرف هذه المدينة والربيع والخريف من غير أهلها والمقيمين لن يصدق غزارة الضباب في بعض صباحاتها الشتوية وديمومته ، وأتذكر أنني ذات منتصف ليل وقعت في مثل هذه المصيدة في الطريق بين أبوظبي ودبي ، ولم أعد قادرا على الرجوع إلى أبو ظبي لأنه قد أحيط بي من كل الاتجاهات (وإذا فات الفوت ما يفيد الصوت) ولم يكن مما ليس منه بد فواصلت المسير في لا رؤية إلا توهّما ولم يكن في سيارتي مصباح الضباب الأصفر ، فتوكلت على الله كأنني أسير على قدميّ حتى وصلت مع الفجر ، وحينها لم يكن شارع الشيخ زايد قد نهض بقامات ناطحات السحاب العملاقة التي تؤنس العابر وتضيف الساهر ، وتأوي العاثر ، فكان يهيأ لي أنني أرى جمالا عابرة في الضباب ، وكانت قصصها مع السيارات في تلك الأيام البعيدة حديث السمار وخبر الأخبار في أبواب الحوادث في الصحف ، وقد أصبحت الآن في خبر كان بعد أن تأمنت الطرق ، فحلت محل الجمال السرعة والطيش هازمتا اللذات ومفرقا الجماعات ، وهكذا حال الإنسان مع الزمان مصداقا لأبي الطيب:

كلما أنبت الزمان قناة

ركّب المرء في القناة السّنانا

مع انقشاع الضباب تحركت (اللوفتهانزا) في حوالي التاسعة وأقلعت برشاقة تحسدها عليها النوارس ، ولم أر أجمل من إقلاعها إلا هبوطها الناعم المنساب في مطاري البحرين وفرانكفورت ، ولكن مالي استبق الأحداث؟ فقد انتظرنا الإفطار ، (اللي هو) كما يقول إخواننا المصريون عقب اللاعشاء ، ولكن يبدو أن البرنامج العادي (من غير ضباب) هو أن يكون الإفطار بعد البحرين ، وهذا ما كان وتذكرت أن ركاب البحرين ينتظرون في المطار منذ ليلة البارحة ، ولكن خياراتهم أفضل من خياراتنا داخل الطائرة ومع ذلك فقد كان قلبي معهم ، فالبشر على عجلة من أمرهم من لحظة الولادة حتى الرحيل، وكان قريبا مني شاب خليجي لا أدري أي ريح جلبته ليسافر إلى البحرين معنا ومشكلته أنه من المدخنين ، وقد سفّ عشر سجائر في منطقة المدخنين المعزولة بمطار أبوظبي على أساس أنه قادر على الصبر تجاه هذه الآفة ساعة طيران واحدة، وطبعا لم يخطر له الجنرال الضباب على ضباب بال فأخذ يتلوى في كرسيه كالملدوغ العاجز عن استنشاق الأوكسجين ، لأن النيكوتين هو أوكسجينه وما كان لأحد أن يساعده فمنع التدخين له قوة قانون تجريم كسر إشارة المرور الحمراء في شوارع المدن الكبرى ، والمدخنون أصبحوا منبوذين كمن به جرب، ونصيحة لله لكل مبتلى بهذا المرض العضال أن يفكر خلال الساعات الأربع والعشرين من كل يوم ، كيف يتخلص من دائه حتى تتم إعادة تأهيله في المجتمع ، إن المدخن في كثير من البلدان المتقدمة بيئيا يخجل من نفسه ومن محيطه وفي عمله وحتى في البيوت سرت عادة تحريم التدخين من أجل الأطفال والصحة العامة ، حتى أن القضاة ينظرون إليه كسبب لا يُدحض لطلب الطلاق. شعرت تجاه الشاب العربي الذي كان يزن أكثر من مائة وخمسين كيلوجراما بالشفقة ، وقلت له: إن الله لا يجمع بين عسرين فكيف تجمع إلى سمنتك سموم السجائر. تبسم كمن يقول: أحيني اليوم وأمتني غدا ، هبطنا في البحرين على لحم بطوننا ويبدو والله أعلم أن الغلاء الفاحش في بنزين الطائرات قد جعلها تعمد إلى تقليص المصروفات وفي مقدمتها خدمات السفر المريح لكي توازن أرباحها ، وبذلك انتهى زمن الراكب المدلل وحتى إشعار آخر. وما إن أقلعنا حتى دبت الحركة وظهرت عزائم المضيفات المجربات اللواتي لا ينتمين إلى جيل الشباب بأي حال من الأحوال ولكن (الدهن في العتاقي) كما يقول المثل ، وقد أغدقن بوجبة فطور معتبرة ، حفزت فضول زوربا الصامت ، فقال على البديهة: معنى ذلك أنه ليس هنالك غداء وأراهن ، قلت وأنا قبلت الرهان ، وكان أمامنا أكثر من 6 ساعات من الطيران الاقتصادي ، وقد كان رفيقي على حق إلا من قبضة فول سوداني في كيس صغير مع كأس من الماء وإن شئت فمشروب غازي أو عصير .. إلى الغد.

اترك تعليقًا