الليلة والبارحة

لا أدري لماذا تحامل العجوز ديك تشيني على نفسه وعجزه ليقوم شخصياً بجولته العربية التي بدأت من بغداد المحطّمة، وقد كاد المسكين أن يقع وهو ينزل من الطائرة مترنحاً لولا أن أمسكه القائد العسكري الذي كان في انتظاره أسفل سلّم الطائرة، ولا شكّ أن القائد على الرغم من مسلكيته العسكرية المنضبطة قد ضحك في أعماقه، حيث لا تحاسب القوانين على خطرات النفوس، وبداله السيد ديك نموذجاً للتفكك السائد في واشنطن، حيث الرئيس يصارع النسور الديمقراطية في مشهد يشبه مقطعاً من فيلم (الطيور) لمخرج الرعب العالمي هيتشكوك، وما أبعد هذا المشهد الدرامي عن ذلك المشهد الكوميدي الذي هبط فيه الرئيس جورج دبليو بوش بالمظلة على متن حاملة طائرات ليعلن تحقيق الانتصار في العراق بينما الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد، وهي التي يصطلي أوارها ونارها الآن “والنار ما تحرق إلا رجل واطيها”… هل هناك حماقة وغفلة أكبر من هذه الفعلة الصبيانية في زمن الحرب؟! هذا ما ظهر وما خفي أعظم.
ما علينا… فقد كان بإمكان السيد تشيني وقد ضعف نظره حتى أنه اصطاد ببندقيته صديقاً مرافقاً له ظاناً أنه أحد الطيور السمينة التي سيعود بها ليؤكد لأهل البيت أنه ما زال شاباً، وكانت فضيحة بجلاجل لإدارة تدير العالم تحت شعار:
أعمى يقود بصيراً لا أباً لكم=قد ضل من كانت العميان تهديه
أقول أنه كان بإمكان نائب الرئيس إجراء اتصالات تلفونية أو مناقشات مواجهة بالفيديو عبر الدوائر المغلقة المبثوثة في كل القصور العربية، أو إرسال السيدة الحسناء الوريفة الشباب رغم تجاوزها الخمسين كوندوليزا رايس، رغم أن بينهما ما صنع الحداد، ولكن الأوامر أوامر، وكانت ستنفذ حرفياً مرئياته وتوجيهاته خاصة إذا كانت تلك التوجيهات مدعومة من الرئيس الذي لم يعد له أحدٌ يثق فيه سوى دعاء الوالدين كما يقال، والعهدة على الراوي {وتمكرون ويمكر الله والله خيرُ الماكرين}.
ما علينا… ولنتركهم في أحوالهم، زيتهم في دقيقهم كما يُقال، ولننظر في أمر الكاوبوي الذي لا يستطيع القفز حتى على ظهر عنزة، وقد جاء إلى بغداد الرشيد لإخراج الزير من البير التي لا يُرى لها قرار “أهل الجبّ صحيح مساكين” على رأي السيدة مع الإعتذار للشاعر لتحريف الحب إلى الجب. ولأن السيد ديك رجل مال وأعمال من طراز فريد، وهو يفكّر الآن في مستقبله ومستقبل أولاده وأحفاده بعد أن أزفت ساعة الرحيل عن البيت الأبيض، فقد أحضر معه عشرين من رجال الأعمال ليروا فرص الأعمال في كردستان العراق التي بدأ بزيارتها وكأنها دولة مستقلّة شديدة الأمان وعظيمة الاستقرار، ولكنه ما أن غادر أربيل العاصمة حتى انفجرت شاحنة مفخخة أمام مبنيي وزارة الداخلية والأمن العام فقتلت نحو 19 شخصاً وأصابت سبعين آخرين بجروح مما يعد ضربة قاصمة لآمال المستثمرين، (خوش استثمار) حسب التعبير العراقي المزدوج المعنى حسب واقع الحال، فقد يكون استحساناً أو استهجاناً.
على كل حال… وصل نائب الرئيس إلى بغداد فوجد البرلمان العراقي – الذي يُفترض أن يبتّ في قضايا ملهمة تعلق عليها واشنطن الآمال مثل تقاسم عائدات النفط، والسماح للبعثيين بالمشاركة في الحياة العامة تحت مظلة المصالحة الوطنية – قد أخذ إجازة صيفية لمدة شهرين بالوفاء والتمام، فاستشاط تشيني غاضباً، علماً أن البرلمان هو (سيد قراره)، وطبعاً لا يستطيع تشيني الانتظار، ولا يتحمّل فشل المهمة التي انقضّت على ظهره، كما أنه لا يمكنه العودة بعد شهرين فيما الشعب العراقي يودعه بما سجله سابقوه:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو=فلا رجعت ولا رجع الحِمارُ
حاشا شيني من الوصف، ولكنها أمثلة تضرب للناس. وكان أول خبر تلقاه هو أوامر السفارة الأميركية للعاملين لديها بارتداء الخوذ والسترات حماية لأنفسهم من هجمات الصورايخ على المنطق الخضراء، وهو موقف يذكر بفيتنام، حيث لم يبق للمروحيات الأميركية سوى سطح السفارة لإنقاذ من تبقى… فما أشبه الليلة بالبارحة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s