عبدالله هادي سبيت، عصفور البساتين الخضراء على ضفاف وادي تبن.. كانت الحرية وطنه كالطير الطليق، وكان العشق أنشودته والإنسان السعيد غايته وكان طريقه وعراً ومليئاً بالأشواك ولكن ذلك لم يزده إلاّ صلابة وافتتاناً وإبداعاً وانقذافاً إلى المجهود ولم يفكّر يوماً أن يتصالح حتى مع نفسه فكيف مع خيانات الزمن وكان بإمكانه أن يتصدر وبإمكانه أن يتأمر ولكنه كان يقول لنفسه:
ما قيمة أن تربح العالم وتخسر نفسك .. وكان ينظر من سمائه العالية إلى الذين يلوثون النهر وهم يدّعون أنهم الينابيع فيضحك تلك الضحكة المرةّ التي يبست على شفتيه مع تقادم العمر، وتراكم النسيان، ورحيل الأغاني التي طالما ألهمت الناس وحفزتهم للكفاح.. وكانت كالنبراس بيد الدليل في الليل البيهم.
في فجر الحركة الوطنية الصادق عندما هبت رياح القومية العربية في الخمسينات وتعددت بؤرها وتطاير شررها في عدن وصنعاء ولحج ويافع والعوالق وأبين والحديدة وتعز واكب عبدالله هادي سبيت ذلك المد بنشيده الشهير الذي كان بمثابه “مارسيليز” الثورة التي لم تلبث الاّ قليلا حتى انفجرت كالبراكين في 26 سبتمر و14 أكتوبر وكان النشيد:
ياشاكي السلاح
شوف الفجر لاح
حط يدّك على المدفع
زمان الذل راح
يا للكلمة الصادقة عندما تتدفق من قلب مؤمن وجنان شجاع ولسان قوّال صريح البيان، وتؤدى على أجنحة الفن وتعزف بأوتار القلوب.. إنها تفوق المدفعية ودوي القنابل ولا يستطيع المستعمر أو المستبد الظالم أن يصيبها في مقتل، وهي تتجاوز كل حواجز التفتيش وتتأبى على كل الجواسيس وتحلق فوق الزمان والمكان وهذا ما كان من أمر عبدالله هادي سبيت الوطني الغيور الذي احترف نكران الذات وكانت مكافأته الوحيدة إحساسه الغامر بالكبرياء والوطنية واستضافة مدينة تعز لهذه القامة الكبيرة في خريف عمره الذي امتد حتى التاسعة والثمانين قبل أن يتوفاه الله ويختاره إلى جانبه أمس الأول حيث دفن في مقبرة “السعيد” الأسرة الكريمة التي لم تقصر بحقه في حال الصحة والمرض.. وكنت قد تحدتث إليه منذ حوالي العام وكان كل همه أن يوفر لأسرته حياة كريمة وكأنه هو غيرموجود وربما كان يشعر بدنو الأجل ربما على مدار الساعة، ولم تقصّر معه وزارة الثقافة والأستاذ خالد الرويشان الذي كرّمه وأجرى له راتباً استثنائياً كما حدثني عن الشيخ عمر قاسم العيسائي الذي لم ينسه أبداً، وعن الدكتور محمد اليافعي الذي كان يتخذ من عيادته استراحة له في غدوه وراوحه، والدكتور الذي يعرف قيمة الرجل ومكانته الفنية العالية لم ينظر إليه أو يعامله في أي وقت من الأوقات إلاّ كقمة من قمم العطاء في وطننا، وهناك الأستاذ محمد عبدالودود طارش الذي كان يحبه من الأعماق ويسعى في مصالحه ورجل المهمات الأستاذ علي محلتي صلة الوصل بينه وبين العالم وحق بينه وبين نفسه، وتلك الإنسانة الكريمة الصحفية سلوى الصنعاني التي كانت من مقرها في عدن وبيتها في الحوطة تسّهل له أموراً كثيرة هو في إمس الحاجة إليها، وربما هناك كثيرون لا أعرفهم هم الناس في الناس وهم ذاكرة الضمير الحي، ولا أدري أي جفوة صرفته عن الحوطة مسقط رأسة ومهبط إلهامه فلم يزرها حسب علمي منذ زمن طويل أمّا هي فكان حديث مجالسها ومؤنس أسمارها، ولم تتح المساحة أن أتحدث عن إسهامه العظيم في الغناء اللحجي فهو مع صالح نصيب فرسي الرّهان بعد المبدع الكبير الأمير أحمد فضل القمندان.. رحم الله عبدالله هادي سبيت وأسكنه فسيح جناته «إنا لله وإنا إليه راجعون».
الموت في الحياة..
30-5-2007
مات عبدالله هادي سبيت عن نيف وثمانين عاماً كاد ان يلامس فيها التسعين وهو عمر مديد بالمقاييس اليمنية التي تتقصف فيها الاعمار في منتصف المائة او حواليها، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، واسباب الموت وفيرة والحمدلله، لذلك يقرع كل الناس على اختلاف مشاربهم اجراس الحياة لعلها ان ترعوي عن غيها، وتمد اشهر ربيعها على حساب اشهر شتائها، وليس ذلك على الارادة الانسانية الخيرة بعسير، رغم ان الشيخوخة المتمادية قد اصبحت مشكلة في المجتمات المتقدمة التي توفر للمسنين الرعاية الصحية المكلفة والرواتب التقاعدية المجزية ووسائل تزجية الوقت والتواصل مع المجتمع الذي تتسارع خطواته الحضارية فيغدو ما كان علماً قبل 50 عاماً كراكيب مكانها مخازن المخلفات التي لا ينظر فيها احد حتى ياتي ذات يوم «جاري جمل» فيحمل تلك الكراكيب الى محرقة أو يسلمها الى مطرقة لتغدو اثراً بعد عين بعد ان كانت حياة ناطقة ما علينا.. مات عبدالله هادي سبيت، وقد عاش في سكرات الموت سنين ان لم أقل عقوداً لم يلتفت فيها اليه احد ممن رفعوا عقائرهم بالرثاء الطويل العريض وبالمدح والتقريض والاشادة، وياليته سمع كلمة من هذه الكلمات وهو حي يرزق، اذاً، لافتخر امام ابنائه بان من خيرة ابناء المجتمع وان له على الناس افضالاً واي افضال فالمبدع حين يبدع فمن اجل الناس وان هيء له انه من اجل نفسه، وخاصة في الشعر والغناء، وهي من مجالات الابداع العام للعالم والجاهل والذكر والأنثى.
لا لوم على الناس لانه يبدو ان كل واحد يبحث عن مرثيته وعمن يرثيه، واكثر كلامنا ومجاملاتنا وحتى نفاقنا البريئ منه والمعيب هو رثاء مبكر بالمدح او هجاء يستبق الرثاء بالقدح، وكله عند العرب صابون، كما يقول العرب انفسهم عن انفسهم، اي انهم لا يميزون بين الغث والسمين وبين الصالح والطالح وبين ما يستحق البقاء وما يستحق الفناء، وهذه من علامات الغيبوبة الحضارية حين لا يتجه المجتمع كتلة واحدة باتجاه مستقبل افضل للجميع، فواحد ينطلق وآخر يمسكه من حيزومه ليوقعه ارضاً، وثالث يمسك السلم بالعرض فلا هو قادر على الخروج من الباب ولا هو مفسح الطريق لغيره، وترى الاحزاب شتى تتدارس قواميس الشتائم لتخرج الناس بكل ما يدمر الآمال ويحبط الاعمال وهي سادرة في هذا اللغو والغي فلا ترى حسنة في أي عمل ولا في اي قول، كانها مكلفة بذلك مثل عسكري محمد محمود الزبيري:
العسكري بليد «للأذى فطن»
كأن ابليس للطغيان رباه
الشاهد.. انه في مثل هذا الحال الذي دوامه من المحال والا تكون اللعنة قد كتبت علينا الى الابد، لا مجال لامثال عبدالله هادي سبيت الذي قطع لسانه منذ مطلع سبعينات القرن الماضي وربما منذ منتصف ستيناته عقب مغادرته الوطن الى القاهرة، بعد ان رأى ببصيرة ثاقبة اننا «شعب» بحمد الله يمشي الى الوراء، وقد عاد عام 68 لفترة وجيزة جداً من اجل ان يبيع بيته في «حوطة» لحج الخضراء، وكفى بذلك دليلاً على الغربة المدمرة التي انشبت اظفارها في روحه المرهفة كانها المنية:
واذا المنية انشبت اظفارها الفيت كل تميمة لا تنفع
وقد علمت- ويا ليتني ما علمت- من مصدر مطلع وموثوق ان الاطفال كانوا يحرضون على رميه بالحجارة حين يمر في الشارع، وقد عين عاملاً في دائرة الزراعة التي كان يرأسها قبلاً، وفي المثلين وما خفي اعظم اجابة كافية عن تساؤلي عن سر عزوف عبدالله هادي من مسقط رأسه حتى الموت فقد عاد الى تعز ولم يبارحها ابداً، فيا ايها الرثاة اقيموا صدور مطيكم طالما المناسبة قائمة، ثم اتركوا الفقيه ينام في سلام بعد ان شبع موتا في الحياة.