تخاريف سفر…

نهرب إلى السفر المؤقت المشمول بالرعاية من السفر الدائم في المعاناة ومغالبة العيش وخوض الصّراعات المستعرة داخل النفس وخارجها، كما نهرب أيضاً من السفر الأعظم الدؤوب بين المهد واللحد، وهيهات أن نهرب. وجميعها أسفار لا تتسعُ لها الأسفار، تصمّ الآذان وتعمي الأنظار. واختيارات الإنسان فيها لا تكاد تُذكر، فهو مسيّر ومحاطٌ بجيناته، ومؤطر ببيئته ومجتمعه وآلياته، ومربوطٌ إلى وتدِ أسرته الصغيرة، ومسلّماته تعلّمه الخطى ثم ترسم له السير والمدى، ومع الإنسانية ومن سبقونا ومن سيلحقون بنا فنحن في هذا البيت الأرضي محكومون بالقوانين العظمى بين شروق وغروب، وصيف وشتاء، وجزرٍ ومد، وجاذبية لا تُفلت أحداً من يد. ولنا في بيتنا الأرضي الصغير سقفاً نراه عظيماً وهو في هذا الكون الواسع الشاسع أصغر من قنّ دجاجة، وأوهن من بيت عنكبوت، ولكنه يفي بالغرض إذا لم يتعرّض للمرض، مثل أذى ثقبِ الأوزون الذي أحدثه الملوّثون المعروفون، وهم الآن يتناكرون ويتماكرون ويتناسون أنّ سكّان هذه الكرة المبحرة مع المجموعات الشمسية والمجرات العظمى في الكون اللانهائي هي مثل سفينة في بحرٍ لجّي، إذا ما ثقب ثاقب في جانب منها فما من أحد في منجاة إلا من هلاك إلى هلاك، ومن فم أسد إلى فم حوت:

ومن لم يمُت بالسيف مات بغيره
تعددت  الأسباب  والموت iiواحد

ومع ذلك فإن هذه الكرة محمولة مشمولة لا تستطيع التقاط أنفاسها أو التوقف قليلاً لتنظر إلى وجهها في المرآة، لأنها في عجلة من أمرها تمضي متدحرجة إلى مستقرٍ لها، فكيف بمن هم في بطنها ساكنون، وبترابها عالقون. ولو فكّرت قليلاً في أمور الناس لوجدتهم على شاكلة أمهم ينسجون، وللهاثها مقلّدون، فهم في عجلة من أمرهم يتخبّطون بليل كالعسس، فيخلطون السيئة بالحسنة، والقش بالحليس، ولا يفرّقون بين التمرة والبعرة، ثم يختبئون في الهاجرة، خوفاً من أن تدور عليهم الدائرة. وما بين غمضة عين وانتباهتها يكتشفون أن العمر قد تسرّب من بين أصابعهم المتيبّسة، كما يتسرّب الماء من بين أصابع قابضه المتلبّسة، فلا ذا تأتى ولا ذا حصل، دائماً هي مسرحية ضاجّة كما يقول (شكسبير) – الذي تأوّله الزعيم (معمّر القذافي) (شيخ زبير) فعرّبه وأعربه رغم أنف الإنجليز – مملوءة بالحركة والأضواء ولاأحداث يشاهدها جمهور متحمّس متفاعل ويؤديها ممثلون متمرّسون مطبوعون، ثم يَنزِلُ الستار على دويّ التصفيق، فتُطفأ الأضواء وتغلق الأبواب وتخفت الحركة إلى أن تتلاشى:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا
أنيسٌ   ولم   يسمر   بمكة  سامرُ

وأنت حين تسافر فمن كوميديا إلى تراجيديا، ومن عصر غبر إلى عصر حضر، إلى عصر منتظر، لا هو في عيرك ولا هو في نفيرك، فقد قدّمنا استقالة جماعية من صناعة العصور، واكتفينا بحرق البخور في مجامر العطور، والإيفاء بالنذور، وعلك الكلام كما تُعلك الخيل ألجمتها في المجالس والدّور، ثم نقول للدنيا السلام، وأننا فيها خير الأنام، وأفضل من ينام:

سِر إن استطعت في الهواء رُويداً
لا   اختيالاً   على  رفات  العبادِ
ربّ  لحد  قد  صار  لحداً  iiمراراً
ضاحكاً   من   تزاحم   iiالأضداد

تخاريف سفر… سامحونا…

اترك تعليقًا