القاضي احمد الآنسي – زمان الصبا

زمان الصبا
24/11/2005

«زمان الصبا» اسم جميل لديوان جميل لشاعر هام بالجمال وكلف بمغانيه وتغنى في استعراض لذاذاته وصباباته فأخذ يغرد من فنن الى فنن ومن عيون ناعسة الى قدود مايسه، ومن مجالس وصال الى مرارات انفصال، ذلكم هو القاضي أحمد بن عبدالرحمن الآنسي المتوفى قبل 581 عاماً والذي عاش وقضى في صنعاء مدينة الزهو التي حوت كل فن.

الديوان الذي حققه استاذنا الراحل الدكتور محمد عبده غانم ـــ طيب الله ثراه ـــ من اصدارات وزارة الثقافة والسياحة ضمن فعاليات «صنعاء عاصمة للثقافة العربية 2004م» والتي قدمت زاداً معرفياً فريداً كم كنا بحاجة ماسة إليه بعد أن غفلت مطابعنا عن الكتاب وازدرته واعتبرته من سقط المتاع حتى اصبح الباحث عن الكتاب كالباحث عن الكبريت الأحمر يتشمم اخباره من المتخصصين الذين يقصون آثاره في المهامة وربما لجأ الى ضاربات الودع، اما المكتبات فقد اصبح حالها يرثى لها حتى هانت على نفسها فنسيت اناقتها القديمة وفرحها بكل جديد وناسها الذين يأتونها من كل فج عميق، ومواقعها اليوم بيد باعة الخردوات والعطور المغشوشة وكبائن التلفونات التي تلعلع ليل نهار، يجعل منها أشبه بالايتام على موائد اللئام، «ورحم الله زمان اللبن».

القاضي أحمد عبدالرحمن الآنسي شاعر حميني عملاق يطاول اباه الشهير القاضي عبدالرحمن بن يحيى الآنسي الذي وهب الغناء اليمني بدائع مطورة وقلائد فريدة من الحمينيات التي تعلم تذوق الجمال ورهافة الاحساس وحب الحياة وتقدير المرأة، وحين تقرأ ديوان القاضي احمد تنسى «القبيلة» وعنترياتها والبداوة وتشظياتها ورخاوة المجتمعات المهمشة واستلاباتها فأنت معه في مجتمع «مدني» حضاري بالغ الأناقة، يشرح الحب ويشر عنه ويقدس الجمال فيعاود اختراعه كل يوم عبر القصيد والارتقاء بالذوق ونعومة الهمس والتعبير والمجالس المشعة بالكياسة والمناجاة والاستئناس في قدر من البكاء وحرقة الفراق، مع استعار الشوق الدائم الى المحبوب حاضراً وغائباً، لكأن صنعاء هي التي منحت الأندلس الرقة المشبوبة والعواطف المسفوحة، ولكأن وضاح اليمن حاضر في نفوس واوردة شعراء «الحميني» ولاسيما القاضي أحمد الآنسي..
ليت عينك ترى حالته جنح الظلام
ودموعه بخده طليقه
تهجع الناس جمعه وعينه لاتنام
يحسب الليل دقيقة دقيقة
كيف يهناه شربه ويهناه الطعام
وهو شارق بدمعه وريقه
رد قلبه فما زاد لقاه من حين هام
يعلم الله أين جت طريقه
لا حظ الموسيقى الداخلية العجيبة للتركيب الشعري وهي تتواشج في المعاني والمباني طبقاعن طبق: البكاء مقيد والدمع مطلق والظلام ساتر وكاشف، ساتر عن الغير وكاشف للنفس المقروحة وعين ثالثه لاشأن لها بالعذاب مطلوب منها ان ترى لعلها ترحم أو حتى لعلها تكن شاهدة فتتحمل وزر المشاهدة وهي المأذون لها بأن ترى مالايرى فيما الذي هو بؤرة المشهد كله يتعالى عنه لكي يتمكن من الوصف ورسم المشهد المؤطر بالظلام وهجوع الناس في مراقدهم، فيما الصب تفضحه دموعه.
نفحة جميلة من زمن جميل وحيز يضيق عن الاسترسال فإلى لقاء فللموضوع صلة.


كل خميس:زمان الصبا..عذوبات القاضي أحمد الآنسي
1/12/2005

كدت أقول في العنوان عذابات القاضي احمد الآنسي فما نسيج الحب في الشعر الا المعاناة والقلق و الوساويس اما اذا كانت الانهار جارية والقطوف دانية والزمن مواتياً والمحبوب موافياً فإن الشعر يتنحى جانباً لتكتب الحياة قصائدها بلغة أخرى تؤسس لشعر قادم حين تتنكر الدنيا لأهلها وتقلب لهم ظهر المجن:
تشكو من الدنيا وهل من معشرٍ
جمعتهم الدنيا فلم يتفرّقوا
بعد لأي اخترت العذوبات وفضلتها على العذابات لأن القاضي احمد بن عبدالرحمن بن يحيى الآنسي مطبوع على العذوبة يستقطرها كما تستقطر النحلة العسل من السدر فمهما اشتدت عذاباته وعلا نواحه وخانته حظوظه في الحب فإنه ينتصر بالشعر فإذا أزهر القصيد فقد ازهرت العاطفة واختطفت اضواء الاعجاب واتخذت لها في الخلود مكاناً عليا كما هو حالنا معها بعد قرابة قرنين من الزمن:
ما لقلبي وللوجد والشوق الشديد
والقلق والفكر والوساويس
كلما عنّ ذكر الرشا صافي البديد
بات سهران جنح الحناديس
آه يانا على قلبي المضنى العميد
إن تهادت بأحبابه العيس
كل من مات من فرقة احبابه شهيد
مسكنه في جنان الفراديس

لاحظ كيف تتهادى الكلمات متصلة منفصلة مصلصلة كأن في آذانها أقراطاً و في معاصمها خلاخيل وفي اقدامها أجراساً تستنبئ حالة منشدها وتجوس في خيالاته وتستمزج روحه الولهى إنه يعتب على قلبه هذه الكمائن والفخاخ التي ينصبها له ولكنه عتب المحب الذي يشجع أكثر مما يثني ويشعل أكثر مما يطفي لكأن الوجد والشوق الشديد والقلق والفكر والوساويس زاده الليلي ومستقر طمأنينته والعالم الخاص جداً الذي لا ينافسه فيه منافس والذي يمكنه من إعادة صياغة المحبوب في قالب الفن الازلي ليتحول الى نموذج يستعصي على الزمن الذي يغير على الجمال ويغيره ومن ذا الذي يا عز لا يتغير.
يقال ان النحات الاسطورة مايكل انجلو حين اكمل نحت تمثال موسى وقف مشدوهاً أمامه ثم صرخ فيه بكل قوته:
انطق..تلك هي نشوة الابداع والخلق التي لا تجاريها سلافات الدنان ولا خمر العقيق اليماني:
يا حبيب والنبي يا حبيب إن الفراق
قد شكا منه الناس قبلي
هل عليّ إذا ذبت لوعة واشتياق
في هواك يا حبيبي وسؤلي
أسأل الله تعالى يعجّل بالتلاق
فهو قادر على جمع شملي
هنا يستنطق احمد بن عبدالرحمن الآنسي المحبوبة مشافهة ولكنها ليست تلك النائمة في حناديس الليل وانما الاخرى الساهرة معه في حناديسه المضاءة بالقلق والفكر والوساويس والاخيرة هي الاحب اليه يدنيها ويبعدها ويستعطفها ويشير لها من بعيد انه يوشك على الموت شهيداً في حبها استئناساً بجميل بثينة:
لكل حديثٍ عندهن طلاوة
وكل قتيلٍ بينهن شهيد


زمان الصبا
08 ديسمبر-كانون الأول 2005

بكائية القاضي احمد الآنسي يا حمامي أمانة ما دهاك
حمينية ولا أبدع تحلق في سماء الانسانية وسماء الشعر بجناحي حمامة بيضاء أهدر دمها من قبل جبار عنيد حتى لم يبق للسلام معنـى فصبغ ضمير القاضي أحمد الآنسي المرهف والشفاف بغلالة من الأسى والحسرة واللوعة لم يخفف من وطأتها عليه سوى هذه المرثاة التي أعادت بعثها الى الحياة ومساءلتها والبكاء بين يديها:
يا حمامي أمانه ما دهاك؟
طرت من بقعتك حيث الامان
سقت نفسك الى بحر الهلاك
منذ طفولتي وانا استمع الى هذه الحمينية المغناة وقد اخذتها على ظاهر القول لانك كيفما التقطتها وتقبلتها امتعتك فإن كانت لتتمتِّع لوحوته لوحة اشفقت عليه وتهيم في الليالي الجمالي قبل ان ينقض عليه الباز المتجهم رسول العيلة والموت فيحيله الى اشلاء وان تخيلته حمامة انسانية ترش الفرح أيان التفت وتجعل من الحياة قصيدة فاتنة ووردة ناضرة قبل ان تصادف الوحش الذي جعلها تضطرب وتفقد توازنها فيرحل الفرح عن عينيها قبل ان يفترسها ويوردها موارد الهلاك وقد حدثني القاضي علي بن علي الآنسي أطال الله عمره والذي قضى أربعين عاماً من عمره ما بين الاشغال ورد المظالم في رئاسة الجمهورية قبل أن يتقاعد وهو من أحفاد بيت الآنسي الكبير بلابل الحميني وسدنته وناشري ألويته وهو وريث أصيل لطباع الرقة والأنس وعشق الجمال وتذوق النغم والتلطف الى الاصحاب حدثني في المنزل العامر لصديقنا الاستاذ خالد الرويشان وزير الثقافة والسياحة ان حمينية يا حمامي أمانه ما دهاك هي قصة فتاة حقيقية فجعت بمصيرها صنعاء التي كانت في زمن الشاعر مدينة صغيرة متشابكة ولم يتسن لي استقصاء التفاصيل مع تداخل الاحاديث في المجالس اليمنية وعموماً فإن ديوان زمان الصبا الذي حققه الدكتور محمد عبده غانم ونشرته وزارة الثقافة و السياحة ضمن فعاليات (صنعاء عاصمة للثقافة العربية 2004م) قد تعامل مع القصيدة في ظاهرها.
تبدأ المرثاة الدامعة بالمقطع الذي أوردناه سلفاً بالأسئلة التي لا اجابات لها بالغيب الذي لا يكتنهه أحد :لو لم اذهب هناك لما حصل ذاك هي آهة طويلة ممتدة ومحاسبة رقيقة.. لطيف لم يعد بالامكان الاقتراب منه إلا في الخيال الدامي ما بين مسيره الجميل ومصيره القتيل:

خانك الدهر يا سيد الحمام
وانزلك من محلك والمقر
قد سقاك لا سقي كاس الحمام
هكذا الدهر حكمه في البشر
قد نهيتك وما تم الكلام
لا حذر يا حمامي من قدر
اوقعك قل فهمك في شباك
المنايا فكم ذا الامتحان

الشاعر كان متوقعاً لذلك المصير الدامي وربما كان يتمني في أعماقه الاَّ يتم بتلك الصورة الفجائعية الدامية وحين حدث زلزله لانه ادرك ان النصيحة لوحدها لم تكن كافية فالصبا والجمال يجتذبان الحبائل والحبالين كما يجتذب المغناطيس نثار الحديد ربما تخيلت الصبية انها ذاهبة الى كرسي الملك لا الى كرسي الاعدام لا حذر يا حمامي من قدر.. لقد اعاد القاضي احمد الآنسي اخراج الرواية في الشعر لتستقر على كرسيه الملكي تاجاً لمملكة الحميني.


كل خميس: بكائية القاضي احمد الآنسي
15/12/2005
“ياحمامي أمانة مادهاك..”
نواصل ما بدأناه الاسبوع الماضي مع «حمينية» القاضي أحمد الآنسي “ياحمامي أمانه مادهاك” وهي احدى غرر الغناء اليمني التي تزداد تعتقاً مع الزمن وفيها من الشجن وخلاصة تجربة حياة غنية مايجعلها قريبة الى القلوب لطيفة في الاسماع عن قناعة يستريح معها ولو هنيهة امام هول هذا الحادث الجلل الذي أودى بصبية حسناء على يدعات جباره لايسأل عما يفعل والقاضي يحمل الصبية – الحمامة – جزءاً مما آل اليه مصيرها «طرت من بقعتك حيث الأمان»
حيث تربط الشاعر بالمغدورة جعلت منسوب «الى بحر الهلاك» ثم يتصاعد في القصيدة التي اتخذت من الرمز الشفاف ستاراً لها والصبية تنتمي الى عالم الفن الساحر بصورة من الصور حيث تتجاذب الارواح وتتعلق ببعضها ومن كالشعراء الذين هم في كل وادٍ يهيمون يصيبهم سحر الفن والجمال في مقتل فاذا اختفى من امام نواظرهم استحضروه من الخيال اضعافاً مضاعفة:
شلك الباز من بين اخوتك
حين عرف ان قد هي ساعته
لو سمع ياحمامي نغمتك
كان شا يفلتك من قبضته
غير أجرى دمك من مقلتك
أسأل الله يعمي مقلته
قادر الله يهلك من أذاك
واحرمك طيب عيشك ثم خان
في المقطعين اللذين استعرضناهما في العدد الماضي كان القاضي أحمد الآنسي يتأمل صروف الزمان وما تخبؤه للانسان الذي يكون غافلاً أو كالغافل فيقع في الشراك التي تورده موارد الهلاك: خانك الدهر ياسيد الحمام و…. هكذا الدّهر حكمه في البشر و…. لاحذر ياحمامي من قدر.
وبعد ان استوفى الآنسي المنطوق العام لأقدار الحياة استدار للإمساك بتلابيب المجرم وهو كأي قاضٍ لايستطيع ان يحيل القضية المعروضة أمامه الى الاقدار التي لايعرف كنهها أحد فلا تزر وازرة وزر أخرى ومع الأسف فإن محكمة الآنسي ليس في يدها اصدار حكم قابل للتنفيذ على عات جبار ربما دلّس جريمته بتخريجات شرعية مما يزكيه فقهاء السلطان فأحال الأمر الى قاضي القضاة الذي لا تعزب عنه خافية ومن وكل الله فقد استوفى لنفسه وانتصف لغيره:
خضب الكف منّك بالدما
ونثر طوق جيدك في يديه
واستباح في الحمى قتلك هما
فالقضاء والقدر ساقك إليه
عذبك عذبه رب السما
وانتصف لك ووراني عليه
بسهام المنية قد رماك
لابرح طول دهره في هوان
ومن وجع المغدورة والحقد على الغادر ينتبه القاضي أحمد الآنسي الشاعر المرهف المشبوب الوجدان الى حاله فهو ضحية في هذه المأساة فإذا كانت الصبية قد ردت أمانتها الى بارئها والغادر يتسربل في جرمه بانتظار قصاص إلهي لا يرد ولا يدفع فإن الشاعر وحده يعاني صبابة العشق ولوعات الفراق وألم الخديعة والخيانة لذلك يخاطب قلبه:
وأنت ياقلب مالك ما سليت
قد كفى لك بعشقك والهيام
ولكن- هل يكف القلب عن الوجيب؟ أم يسير على خطى ولادة بنت المستكفي:
ولو أني غمضت عليك عيني
إلى يوم القيامة ما كفاني

2 comments

    1. جميل جدا قصائدالقاضي احمدالانسي شعراء الغناء الصنعاني كانوعلماء في مجال القضاء وعلوم الفقه

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s