فضل النقيب يتذكر:تعلمنا الكثير من الجوع و القيود

متابعة : مرشد ناصر

في إطار برنامج الانشطة الثقافية المصاحبة لمعرض صنعاء الدولي الـ22 للكتاب، والذي تتزامن اقامته مع اعياد الثورة المباركة. اقيمت في بيت الثقافة صباحية ادبية «حياة في الكتابة » للاديب والصحافي فضل النقيب، وقدم الصباحية الاستاذ خالد الرويشان وزير الثقافة والسياحة.

وقد تطرق النقيب في حديثه عن الوجه الآخر في تجربته الابداعية حول سنوات الطفولة والدراسة والايام الخوالي التي امضاها في قريته المسماة «القدمة».

«26سبتمبر» تنشر جانباً من فصول تلك الحياة التي شكلت الاساس الثقافي المكتسب للنقيب، وتحديداً ما يخص الفترة التي سبقت قيام ثورة سبتمبر واكتوبر المجيدتين، فإلى.. تلك المرحلة كما وردت على لسان الاديب والكاتب الصحفي القدير فضل النقيب:

في قعطبة كانت لي تجربة مثيرة حيث قضيت عدة سنوات في مناخ دراسي غير المعلامة التقليدية التي كانت فيها خيزران الفقيه اكثر إدراكاً لنا من ليل النابغة وإن خلنا أن المنتأى عنها واسع، وكانت المدرسة قد بنيت من قبل الامام أحمد بن يحيى حميد الدين خصيّصاَ لابناء يافع وكانت داخلية لا نعود منها الى قرانا البعيدة على قمم الجبال سوى مرة في السنة في شهر رمضان، والمدرسة شبه ثكنة عسكرية محروسة من قبل الجنود واي عقاب قيد حديدي ثقيل في الارجل واذا تشاجر طالبان قيدا بقيد واحد ولم يكن في المدرسة التي هي داخلية في الوقت نفسه حمام واحد لحوالى خمسائة طالب كانوا يذهبون لقضاء حاجاتهم في العراء حيث الكلاب الضالة وربما الذئاب ومختلف الهوام ولم يكن مثل هذا الأمر في منتصف الخمسينات من القرن الماضي يثير احداً او يلفت نظر.

كانت المدرسة سجنا كبيراً، ولكن التعليم الاساسي فيها أفادني كثيراً في قابل الأيام لجهة ضبط اللغة وتجويد الخط وحفظ سفينة النجاة ومبادئ الحساب وكنامحسودين على وضعنا اذا نعطي باولة كل اسبوع وريالاً فرنسياً لكل طالب آخر العام وكسوتين و4 كدم يومياً نحتفظ بها للوجبات الثلاث مع إدام من البطاط الذي كان يفتت بالاقدام من قبل الطباخين وحين تجهز القروانات كنا نهش اليها كالحمام وقد استصلحنا بعض القطع الصغيرة من الارض نزرع فيها ما نشاء كما تعلمنا كيف نعمل الحلبة وقد شهدت مقطع إصبع احد الزملاء بأسنان زميله لأنه مدّ إصبعه الى مطيبة الحلبة ليتذوقها، يعني بصراحة تعلمنا الكثير من الجوع ومن القيود ومن الكنم والكتن التي لا تعد ولاتحصى وكان علاجنا شربة سناء كل إسبوع نتجرعها على كراهتها والخيزرانات فوق ظهورنا، وكان يسمح لنا بالذهاب مرة واحدة في الاسبوع الى المدينة فنعيث فيها فساد بأيدنا واحجارنا، لا نقول خرجنا من السجن شم الانوف، ولكن بمخالب حادة وغرائز متوحشة، وقد كان استاذنا عبد الله الثور يضرب المخالب بالياجورة على صدره، فيماالاستاذ عبد الله المساجدي لايشبع من الكفوف على الوجه بما يتوهم انه الحق وقد كنت اتمشى ذات مساء في الساحة مع زميلي قلت له ان الاستاذ المساجدي.. ولم اكمل حتي فرقع كف في وجهي وسؤال كالسيف ماذا قال المساجدي؟

اما الاستاذ قاسم المصباحي فكان رقيقاً ومعينا ومكفكفاً لدموع الطلاب وهذا لم يعجب عبد الله المساجدي فدعاه الى مبارزه بالبواكير الغليظة امام اعين الطلاب وكان الاستاذ عبد الله هاشم الذي اصبح فيما بعد عضو مجلس النّواب آية في الخلق الكريم ووجهة مليء بالنور والبشاشة وفي اجازتنا السنوية نعبر الى الضالع مشياً على الأقدام فتقفل المحال أبوابها وكان لنا نشيد نظمه احد الطلاب الشعراء يقول :
ياقعطبة ردي على الضالع سلام
قولي لهم يوم اللعينة من صباح

هناك نجد بعض الأهل في استقبالنا مع كوكبة من الحمير وبعض الزاد الذي يقاوم الفساد لأن الرحلة الى الجبال تستغرق ثلاثة أيام نقطع في كل يوم مرحلتين، ويالعذاب السفر لأنك اذا امتطيت الحمار جرح فخذيك وادماها حتى تعجز عن الحركة بسبب الاغطية الصوفية الحادة كالأبر فما من احد كان يمتلك بطانية او أشبه ليلطف بها الوقاء الذي على ظهر الحمار وكثيراً ماينام الطالب من الاعياء فيدخل به الحمار تحت شجرة ذات زرب وأشواك تدمي وجهه وقد تخز عينيه أو احداهما، حقاً أن السفر قطعة من العذاب، فإذا اضفت العطش الشديد ادركت العذاب المضاعف وأذكر عدة مرات عبرنا فيها وادي بنا وهو شبه جاف الا من «الخزه» وهي مخلوط الماء والتراب الملوث تأبى الاقتراب منها حتى الحمير ومع ذلك يأخذ الواحد ملء كفيه ويعصرها في فمه والسعيد من وجد خرقة وسخة يعصر الماء عبرها الى فمه.. يبدو لي ان تلك المعاناة شأنها شأن كل معاناة حارقة تولد مناعة ضد امراض واشياء كثيرة، ومع مضي الايام تصفي الذاكرة كل ألم وتبقي كل حسن، وقد بنت الكويت مدرسة بديلة حديثة بعد مغادرتي بزمن، ومع ذلك فإن المئات من ابناء مناطقنا يحجون الى مدرسة قعطبة القديمة كلماعبروا في طريقهم الى صنعاء، وقد تعود عليهم الجنود الذين استفادوا من المدرسة لإقامة ثكنة وهم يعجبون من هذا الحنين وذلك الوفاء لكأننا بدو الجاهلية الرحّل نبكي على الاطلال.

يبدو ان طفولتي زودتني بحصيلة شاعرية سربتها الى وجداني دون ان تسميها، وانما هي كوامن تنتظر الانبجاس كما بنبجس الماء من الصخرة الصماء، ويقيني ان قطعبة هي التي اشعلت شرارة الكلمة على لساني، وعدن هي التي افردت المدى لجناحي الطائر، ففي قعطبة لم نكن نعرف سوى القرآن الكريم وسفينة النجاة ولوح الطباشير، اما في عدن فكان الأمر مختلفاً جداً. هناك تعرفت على الكتاب المدرسي والمنهج الحديث والجريدة السيارة، حيث كانت المدينة تعج بالجرائد بعد عام 1956م ومنها الصحف المصرية والراديو الذي لعب دوراً كبيراً في التوعية وكنت امر الى بيتنا في المساء من ميدان كريتر على حوالى عشرين بائع فواكه جميعهم يفتحون الراديو اما على صوت العرب او اذاعة لندن وفي العصاري مع القات على اذاعة عدن لسماع اساطين الطرب اليمني.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s