أتذكره كلما ذهبت إلى صنعاء أو جالت بخاطري حيثما ذهبت:كنت فخوراً به وحزيناً عليه وممتناً لأدائه في الحياة كنت أراه دائماً في قلب الموت أو على حافته، فأقول له ياعبدالحافظ :ألم تسمع بقول المتنبي:كأنك في جفن الردى وهو نائم، فيرد عليّ وهو يضحك بأريجية:أين هوالموت يابن عمتي، والله اني أشتهيه كما أشتهي رغيف الخبز الحار وأنا جائع. ثم يرفع كفيه: يارب موتة شريفة.. يارب جمّل وطنّا..
(كنا نلعب”الكيرم”حين سمع بقيام ثورة26 سبتمبر كأن شعر رأسه وقف أو هكذا خيل لي، ولثوان بدا كمن سقط في غيبوبة، ثم نهض كالمارد وقلب الطاولة ثم ركلها برجله فتدحرجت حبوب “الكيرم” باتجاه إسفلت الشارع، فيما كان يصرخ بالجالسين في مكان اللعب الصغير المزدحم بشارع الزعفران في عدن:”أيوه” ياعيال السوق “إلعبو كيرم” شوفوا الدم عاده بايسيل للركب وقبل أن يطلق ساقيه للريح قال لعميد عتاة اللاعبين الذي كان يتغنى بأستاذيه في إرسال الحبوب إلى الحفرو من زوايا صعبة، وكلما أصاب قال:الهند لله.. فيضحك كل المتواجدون فقد جمع إلى ضخامة جسمه خفة الروح ودهاء الأصابع. قال له:”وأنت يازنديق..قول الحمد لله، وشوف لك شغل غير الكيرم، قبل ما أسلخ جلدك يا “دٌبا”.
عدوت وراء عبدالحافظ من شارع لشارع حتى عثرت بحجر فوقعت على مطاويلي ، وبدت لي مطاردته أشبه بمطاردة وعْلٍ في حصباء الجبال.. لقد ناداه قدره فليذهب على بركة الله.
كانت جبال اليمن قد اشتعلت وكانت النار “تتطلب وقوداً من الشباب وقد تقاطروا من كل فج عميق وكان عبدالحافظ أحدهم تمكن من قتل الخوف في داخله واستأنس الموت كما استأنس ذات زمن طفولي في مدرسة قعطبة ذلك “الكبش” الذي كان يستعرض معنا في طابور الصباح بانضباط وجمالية حبا في عبدالحافظ وتقرباً منه من انسانيته التي تليق بمقاتل يهب الحياة والأحياء حياته وموته.
أراني عبدالحافظ ذات يوم بعض أوسمته وكانت آثار رصاصات اخترقت أماكن عديدة من جسده الممشوق ولكنها لم تصب منه مقتلا وقد بدا كأن الأمر لا يعنيه لأنه ينتظر المزيد من تلك الأوسمة «الذي لا يكسر ظهرك يقوية».
“العجوز” يا عبدالحافظ تقرحت عيناها من بعدك “سأذهب إليها ذات يوم”.. متى.. بعد أن تفقد نظرها.. عبدالحافظ لا يرد ولكن أساً عميقا يجتاح عينيه كأنه عاصفة سوداء.. يخرج ليلقي نظرة على جبل عيبان الصامد، وينظر رفاقه الجنود إلي وهم يخزنون القات في “ديمة” أقاموها على عجل في “القاع” كانوا نماذج للإيثار والتضحية وصفاء النفس، كانوا قصائد في ديوان حب الوطن يأخذون اللا شيء ويعطون كل شيء. وبعد قليل لاحظتهم في الخفاء يمدون أيديهم لبعضهم انتهاء بعبد الحافظ. أدركت أنهم يجمعون بنبل مبلغا من المال لكي يتمكن من ضيافتي، كان قد أسرهم بنبله كما أسر ذلك الكبش الوديع ذات زمن طفولي في قعطبة.
كان زملاؤه يستضيفونه في الإجازات في قراهم الجبلية الشمالية التي تشبه جبال مسقط رأسه في يافع. قلت لهم: زوجوه.. قالوا :ياليته يوافق وعلينا كل شيء من السكن إلى المعيشة. هيهات أن يقبل عبدالحافظ “الزواج مسؤولية وليس هبة” وأمامي أشياء كثيرة لم أنجزها آخرها الزواج”.
العجوز ماتت ياعبدالحافظ وقبلها الوالد قتل وأصحاب الزعفران يصرون أنك جننت منذ يوم الكيرم.. “يرحمنا الله جميعاً”..
لم يمت عبدالحافظ محمد النقيب “ابن خالي” كما كان يحب على شعاف الجبال ولكنه مات على فراشه في صنعاء وفي عينيه الحلم اليمني الذي نسجته دماء الشهداء والمقاتلين.