محمد أحمد منصور

غلبت صفة الشاعر فيه على صفة الشيخ فما أكثر الشيوخ غير الشعراء في اليمن وما أندر من هم في طبقته ويكاد يكونون معدودين إلا من أصحاب الارتجازات العامية التي برع فيها عديدون في فن الزامل وبعض الأراجيز التي تمتحى من ذاكرة شعبية لا تتعب من تكرار نفسها وأخيلتها، فكيف وصاحبنا يجلو العربية الفصحى في أكثر وجوهها إشراقاً.
واجلّ صورها عمقاً، واندى عطاءاتها راحاً.
الشيخ محمد أحمد منصور شاعر مطبوع على الفروسية ومتفرعاتها، وعلى الندى وثماره اليانعة، وعلى الإبحار في النفوس يستمطرها الخير ويمسح عنها صدأ التبلد والأثرة:

وكم من موسرٍ قد صم سمعاً
إذا ابتدر الفقير له السلاما
وإن يظهر عليه في صلاة
أطال له السجود والقياما
وليس بنافع قوماً صيام
إذا هو لم يجد قوماً كراما

وليس مثل هذا الكلام صادراً عن فقير ممرور يجذب النار إلى قرصه ويلين القلوب لتنتبه إلى وضعه أو يستنزل اللعنات عليها يأساً من دهره وناسه، ولكنها صادرة من نفس ريانة تعطي ولاتأخذ وتسير على الدرب قبل ان تدل عليه، فمعروف عن الشيخ أنه من ذوي الغنى والوجاهة وقد شاهدته بنفسي في أحد (المرابد) في العراق وهو يواسي أصحابه بمئات الدولارات دون منّ ولا أذى، فيما الابتسامة المضيئة لا تفارق وجهه، لكأنه الملك الضليل أمرؤ القيس له صبوات أولاد الملوك وله بدارات الصعاليك الذين ملأوا صحراء الجزيرة ذعراً وعدلا، وعنده خاصية جميلة في مروءته وشعره وهي الاعتراف والإشادة بالنابهين السباقين فهو لم يغتر يوماً بمرض الاستنقاص من جهود الذين يخوضون غمرات الموت ليكون وطنهم شيئاً مذكوراً وإنما هو يؤازر ليدفع بالمجد صعدا، ولتعلو النفوس الكبيرة بالحب، فتجترح المعجزات:

إيه علي وأنت أنبل قائد
ساس البلاد فعم منه رخاؤها
ونهضت كالطود الأشم مدافعاً
عنها وقد أروى التراب دماؤها
ووقفت كالملاح في ثبج الردى
حتى استقر بأمنها إرساؤها
ومضيت في عمرانها متحديا
حتى تكامل في النجوم بناؤها
وأذبت في الميثاق كل ضغينة
كانت تمزقها فساد إخاؤها

قوافيه دائماً مطمئنة واثقة مع أنه يكتب المطولات ويتغنن في صياغتها وتغليب معانيها في وجوه شتى استدعاء وتوليداً وتخريجاً وفي مختلف فنون الشعر وأغراضه. يقول الشاعر الكبير الأستاذ إبراهيم الحضراني:
لا يوجد وفي للشعر العربي بجميع أشكاله كما وفي الشاعر محمد أحمد منصور، وهو شاعر (النخوة اليمنية) وكيف لا يكون كذلك وهو القائل:

نحن اليمانيين أبطال الردى
قادت مواكب زحفنا الأنصار

آخر مرة التقيته حين كان برفقة الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني في زيارة رسمية لأبوظبي، وقد أخذ يحدثني ويستفيض عن جذوره اليافعية حتى مال علينا الأستاذ عبدالعزيز هامساً: أليس لديكما موضوع آخر؟ وقد علق الأستاذ حسن السلامي: دعمهما وما يحبان فإن الشجى يبعث الشجى.


الجبال لا تحيد
Dec 29, 2005

ربما كان للجبال رأي لا تحيد عنه حين تردد اصداؤها معزوفات القصائد، وفتوحات الشعراء وقراءاتهم بظهر الغيب، فبعضهم يبلغ فيخترق وبعضهم يعجز فيحترق وأكثرهم بين بين لا تطال أجنحتهم لهيب الشمس ولا تسف الى ترب الارض الا من اخزى الله..!
الشعراء في الزمان أربعة
فشاعر يجري ولا يجرى معه
وشاعر يخوض وسط المعمعة
وشاعر لا تشتهي أن تسمعه
وشاعر لا تستحي ان تصفعه

محمد أحمد منصور تسلطن في عدن ووضع هامته الى جانب هامة «شمسان» الجبل المنيف سلطان البحر المعمم بالغمام، ويبدو لي ان كلاهما احتضن صاحبه وان لغة المحبة قد تأسست بينهما فمن قال إن الجبال لا تشعر او ان امواج البحار لا تنبض، ولكن لكل لغة قراءة وقراء، فالكون كله قام على الكلمة، وعندما اعطي سليمان منظق الطير والحيوان انما نسمح له بجزء بسيط من ابجدية الكون لم يستطع توريثها الى البشرية، لذلك سنظل نقرأ بالحدس وبالمشترك الاولي الغائر في النفس دون يقين.

«شمسان» في قصيدة ابن أحمد منصور اليافعي المعنونة «جوهرة المؤتمر» كأئن حي يصنع البطولات والابطال ويبتعث الرسل والرسائل ويعقد ألوية الجيوش ويذب عن الوطن ويقف حارساً على بوابات المدينة البحرية، عدن التي نصف مياهها مد البحر والنصف الآخر دموع الاحباب ولهاً وصبابة وعشقاً ازلياً:
شمسان يا فجر الأبي الثائر
يا حارس البحر الخضّم الزاخر
شمسان يا تاريخ شعب لم يزل
يمليه كل مناضلٍ ومغامر
أطلعت للدنيا سناً متوهجاً
ولبست تاج لآلئ وجواهر
ومددت ظلاً وارفاً فتفيأت
بجوار ظلك جيرتي وعشائري

يا لها من إناخة تذكر بوصف المتنبي لجبال لبنان التي يزل عنها العقاب، ولكن المتنبي لم يؤنس الجبل وإنما غرّ به ولم يجعله ينبض وانما جعله قاسياً كصخوره اما ابن احمد منصور الجعشاني اليافعي الشيخ الجليل نزيل سفح شيخ جبال اليمن «صبر» فقد جعل شمسان باعث الحياة ومنتخب الابطال حين التفت الشاعر الى ممدوحه المفضل علي عبدالله صالح فواصل:
واخترت للميدان أمهر فارسٍ
شق الصفوف على جواد ضامر
وبنى لهذا الشعب مجداً شامخاً
سيظلّ منصباً لدهرٍ داهرِ
وأقام وحدة أمة يمنية
من بين حُمر مخالبٍ وأظافر

الشاعر تفجر في القصيدة شظايا في كل الاتجاهات: وفاء للتضحيات التي اقتلعت الاستعمار، حباً لعدن وللشعب بيعة للرئيس ورفضاً لقراره بعدم الترشح، لا رغباً ولا رهباً وإنما حباً صرفاً:
أنا إن مدحتك لم أكن متزلفاً
او راجياً اسباب عيشٍ وافر
ولسوف اعتصر القوافي خمرة
يغدو الزمان بذاك أول ساكر

لقد آب المؤتمرون واطبقت الوثائق اجفانها ولكن قصيدة ابن احمد منصور اليافعي ستظل على اتساع عينيها تحدّق في شمسان وفي اعالي البحار شاهداً على الحب والوفاء.

One comment

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s