في مطار أبوظبي

Capture

أحاديث المطارات لها مذاق السفر، وتقلبات أحواله، وخواصه الرمزية في البوح والسرعة والإنجاز، وانفتاح الذاكرة للتسجيل، وخاصة بالنسبة لمن لحقتهم حرفة الكتابة ممن امتهنوا البحث عن المتاعب في بلاط صاحبة الجلالة، فهم يتسولون موضوعاتهم على قارعات الطرق وفي بطون الكتب ووجوه الناس والمراكز التجارية والمطارات، وقد يكونون محظوظين فيزودهم لقاء صدفة بكنز ثمين يفتح لهم باباً للكتابة المدهشة المنعشة، وما أكثر الإدهاش في زماننا وما أقل الإنعاش.

ابني “محمد” يلاحقني بتنبيهاته – يا الله – كنا ننبههم فأصبحوا ينبهوننا، هذا حال الدنيا، وتلك الأيام نداولها بين الناس.  كنت أغضب في ما مضى بحكم أنني اكثر خبرة، أو هكذا كنت أظن، وبعض الظن إثم، وبحكم أن الحياة جامعة الأحياء والمكتبة الأعظم لتوثيق الخبرات وتناقلها، ولكننا لا نقرأ من كتب الحياة وأسفار الكون إلا بقدر تلك القطرة التي يأخذها عصفور صغير من المحيط:

وعند الشيخ أجزاء كبار… مجلدة ولكن ما قراها

“محمد” على حق، فها أنا ذا قد نسيت الكتابين اللذين احضرتهما مع صحف اليوم في السيارة، أقول لا بأس بذلك فإن المسافر أخو المجنون يحرص على هذه وتلك وخاصة وثائقه ونقوده، ولا حرج إن نسي الكتاب وما أشبه.  إذهب يا”عمار” واحضرهما من السيارة، يذهب سريعاً ويعود ومعهما تلفوني الذي كان على الشاحن، ولم أنتبه إليه حين المغادرة.  يشعر الأولاد بالانتصار حين يضبطونك متلبساً بالنسيان، وترى النشوة في عيونهم مصحوبة بالمحبة والتقدير، إني أعترف، وهل نستطيع ان نعيش أعمارنا وأعمار غيرنا؟ وعلى الرغم من ذلك تظل للكبار في عيون أبنائهم تلك المهابة التي تحدث عنها العقاد في قصيدته عن النسر العجوز الذي لم يعد جناحاه يحملانه:

لِعَينيك يا شيخَ الطيور مهابَةٌ/ يَفِرُّ بُغاثُ الطيرِ عنها ويُهْزَمُ،

وما عجزت عنك الغداةُ وإنما/ لكلِّ شبابٍ هَيْبَةٌ حين يَهْرَم

السوق الحرة في مطار أبوظبي نفضت عنها نعاسها القديم، هي اليوم مليئة بالشباب والحيوية الوضحة والنصاعة، وبضائعها متنوعة وأصوات الميكروفونات التي تطارد الناس بالنداءات للأتجاه إلى البوابات المرقمة تفضي بالمسافرين إلى أركان الأرض الأربعة انطلاقا من نقطة واحدة على إختلاف مشاربهم وملابسهم ولغاتهم، “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم” لم يقل ربنا جل جلاله لتقاتلوا أو تنابزوا بالألقاب.

يهتف بي شاب من بعيد، عيناي ممتلئتان بملامحه، ولكن اسمه غير حاضر على لساني، أنا “فؤاد السقاف” صديق ابنك “خالد” وزميله في العمل.  إنثالت الذكريات..

من أي السقاف أنتم؟ من حضرموت، من لحج، من تعز من عدن من صنعاء؟ أعاد إلي زين السقاف رحمه الله بملامحه النبيلة ومنطقه العذب وشجاعته في الحق وكتاباته الشافية، تنضح بالإنسانية وحب الناس، عبدالعزيز السقاف صاحب “يمن تايمز” الرائدة باللغة الإنجليزية، والذي راح ضحية حادث سير أدمى قلوب محبيه وأصدقائه وقرائه.

ذكرني الشاب ب”قصر الجزيرة” الذي تمتلكه عائلته وهو أشهر فندق في عدن من الخمسينيات من القرن الماضي ولنا فيه وما حوله، ما كان لابن زيدون في أندلسه:

جــادك الغيــث إِذا الغيـث همـى = يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ
لـــم يكــن وصْلُــك إِلاّ حُلُمًــا = فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ

اترك تعليقًا