ولا سلوان لنا (عبدالرحمن منيف)

عبدالرحمن منيف
عبدالرحمن منيف
أيها الراحل بعيداً عن مدن الملح، مدّ لنا يديك من أعماق الغياب، فأنت اليوم الأكثر حضوراً والأغنى وجوداً والإغزر عطاءً والأبعد تأثيراً.
كانت غربتك بيننا غربات، تحملتها بنبل، لم تنل من كبريائك الإنسانية، ولا لوّنت اتجاهاتك القومية، ولا وُسمت بالرياء والغموض مشروعك الحضاري، ولا جعلتك ترتدي أثواب الغير طمعاً أو رهباً.

كان الوطن العربي – الذي نحب – وطنك الكبير، فأبوك من السعودية، وأمك من العراق، ومولدك في الأردن، ودراستك الجامعية في بغداد، ثم أكملت في القاهرة، لتعود إلى بغداد، ثم جعلت من دمشق سكنك الأخير، وفيها توفيت بعد أن أبليت بلاء العظماء، وأعطيت عطاء الكرماء.
في ملحمتك (مدن الملح) جمعتَ بين نارين: نأر التأصيل الذي يندثر نبله وتتصحر بيئته، ويتحول إنسانه إلى كائن هلامي، ونار التنوير الذي لا يقارب شغاف القلوب، ولا يلامس عطش العقل، ولا يسمح له بالإنبلاج، فهو معتقل في قلب أسود من المصالح والمطامح والتشوهات، ولقد جهدت في أن تفعل ذا وذاك، وأن تبني عالماً موازياً من خيال روائي تضع في جراحه الملح الحارق.


رحل عبدالرحمن منيف بعد أن شاهد بعينيه انهيار العالم القديم المأمول، وانهيار العالم التعيس المشلول، وانهيار التجارب الواعدة الملتبسة، وانهيار المقامات الذهبية المغشوشة، وليس عندي شك في أنه كان ينتظر الرحيل بالدعاء، فقد رحلنا جميعاً منذ زمنٍ طويل… وكان يدرك ذلك بعمق، ولكنه كان أكثرنا أملاً بأن العنقاء قد تنبعث من رمادها.
في كتابه الأخير (أرض السواد) كان يرصد الكائنات الشريرة التي تحيل الفرح إلى ترح، وتتربص بروح الإنسان الموصولة بروح البيئة وبمعطيات الطبيعة، ولم يكن السواد هو فقط ذلك الإسوداد المدلهم لملايين النخيل في العراق الدامي، وإنما كان أيضاً ذلك السواد الآخر المعادي للشمس والقابع في القلوب السوداء القادمة من الأحقاد المريضة، والملوثة بالشره والإستكبار والإفتئات وصناعة الحقد.
شُغل عبدالرحمن منيف في أعماله الروائية – بصورة عامة – بالإنسان العربي البسيط الذي يقال عنه دائماً أنه ملح الأرض، ولكنه في عالمنا العربي ملح مدفون في السباخ، ومرمي في المستنقعات الآسنة، في الزنازين المغلقة، والسجون الوسيعة، والحجر العقلي، والمصحّات التي لا تعرف الصحة ولا تعترف بها، ومن مصائر هذا البسيط المقزم المعالج بالكيماويات الضارة، لمح عبدالرحمن أسرار انهيارنا وضياعنا وتشوهنا، وعكف مثل الطبيب العالي الضمير يحاول بإبرة الكتابة معالجة سرطان الجيل الذي يدمّر الوديان والمنتجعات الخضراء.
سيدي عبدالرحمن منيف: لقد قلت كلمتك ومضيت، ووداعاً إلى مستقرك بين النجوم… ولا سلوان لنا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s