يحيى عمر قال – 2

أواصل الكتباة عن يحيى عمر (أبو معجب اليافعي) وأنا أسير تحت أمطار المحبة الغامرة التي تجود بها أشعاره كأنها باقات ورد عطرة نظِرة مهداة إلى الزمن العاشق، أسيح في رحابته وتوهجه في ملكوت الحب الذي احترق فيه كما تحترق الفراشات حول المصابيح، فكأن نصيبنا من رماده هذه اللآلئ التي لم تستطع النيران إحراقها، وجل ما فعلته أنها زادتها لمعاناً وصقلاً.

إن شاعرنا ينتمي إلى قبيلة الشعراء (المجاذيب) الذين لا يرجى شفاؤهم في الحب من أمثال (مجنون ليلى) و (كثير عزة) و (نزار قباني)، ولكنه لم يكن عاشقاً لامرأة بعينها، فقد كان متيّماً بالجمال الأنثوي سواء لمع مع جبين امرأة بيضاء وافتر عن ثغر أملودةٍ سمراء أو فاح من أردان لؤلؤة سوداء أو ثوى في مقلة غصنية خضراء. كان شاعر المرأة بامتياز يوشيها ويوشوشها، يحمل لها المرايا لترى أجمل ما فيها، يحيلها من امرأة عادية إلى أميرة تسكن القصور الحالمة، يحيطها بالوصيفات ويعطرها بالبخور ثم يبدأ العزق على المزامير ليتحول هو من ساحر إلى مسحور يعيش أجواء ألف ليلة وليلة، ويلتقط ثمرات الشعر المتساقطة في عالم الأحلام (وجميعنا نتذكر الأغنية المبتركة المعاني والإهاب) والتي شدا بها الفنان اليمني الكبير محمد مرشد ناجي وغناها من بعده العشرات من المطربين:

يحيى  عمر  قال  يا  قلبي  لمه iiتسهر
إن شفت شيء في طريقك واعجبك شله
إن  كان  عادك غريب ما تعرف iiالبندر
إذا   دخلت   المدينة   قول   بسم  iiالله

يخلص (يحيى) من هذا التقديم الطريف لشخصيته كعاشق يتّسم بالجرأة و الإغارة وحب المغامرة إلى تقديم رؤيته في حب الجمال الأنثوي:

اتبع هوى البيض جملة واعشق الاخضر
وساير    السمر   والاحمر   كذا   خله
اسمر  مع  البيض كم يحلى به iiالمسمر
والشمع   يزهى  اذا  شاف  البهى  iiمثله
الخضر    بالله   وفيهم   نفحة   iiالعنبر
والبيض     يسلوك    للسمرة    iiوللقيلة
هذا    وهذا    وهذا..    حبهم   iiيسحر
يا   من  دخل  في  هواهم  تيهوا  iiعقله
خلوه   يمشي   وهو   المسكين   iiيتفكر
لما    نوى    بايصلي    ضيع   iiالقبلة
الحب   ياناس   كم   افنى   وكم  iiادمر
ما   ترحموا   غير  عاشق  فارقه  iiخله
لو   كان   بيده   مفاتيح  بحرها  iiوالبر
الارض    باتستوي   عنده   كما   iiقُبلة

ليس لدى (يحيى) ما يخفيه؛ فهو كتاب مفتوح، وهو كطفل يقول ما يراه ويعبّر عما يشعر به، ولا شأن له بالذين لا يرون أو الذين يقولون ما لا يفعلون، وهكذا نمضي مع (أبو معجب) ليأخذنا بلسانه العذب وخياله الخصب ونفسه الحواري إلى أجواء مغامرة عجيبة

وعاد  قصةعجيبة  في هوى الاخضر
شمه   وطعمه   وريقه   يبري   العلة
يامر   وينهي   ويحكم  داخل  iiالبندر
دولة  عظيمة  ولا  حد  يعصي الدولة
وصلت    لبابه   المحروس   iiاتخبر
متى  يواجه  ابو  معجب  يبا  iiوصله
ما   جيت   الا  وقالوا  انه  iiاستعذر
ماعنده   الا  حمام  الدار  تسجع  iiله
وهو  كما البدر تاكي فوق ذي iiالمنبر
و  أربع  صايف  لأجلة  قايمة  iiقبلة
واربع  يغنين  وخمس  ابكار  iiتتخطر
وخمس  لا  قام  يلعب  يمسكوا iiحجله
فقلت   قصدي  اشاهد  ذلك  iiالمنظر
ان   كان   هذا   ملك   فالمملكة  iiلله
قالوا  لي  اطلع  وسلم  واستقم iiواحذر
تقصد بما قد عزمت ما جيت من اجله
طلعت وأني بزين اهيف زبيب iiاخضر
لابس  مشجر  ذهب  والطاس iiوالحلة
المركبة  طاس  والكرسي  من الجوهر
المرشدي  لو  رأه  لا  بد  يخضع iiله
فقلت   سيدي   بك  المملوك  iiيتجور
ارحم    متيم   بحبك   يسألك   iiبالله
قال أبشر ابشر لا تضني ولا iiتضجر
فشل    هذا   جبا   لك   مننا   iiكله

هذه إذا دولة (أبو معجب اليافعي)… جزيرة الأحلام سكانها جميعاً من العشاق، تتمخطر فيها الحور ويعطر سماءها البخور، ولقد دغدغ بخياله وجمال روحه مواجع ملايين الفقراء والبائسين والبائسات وحتى الموسرين المتعطشين لنسمة عاطفة ندية، وما أظن (يحيى) كان هنياً في حياته ولا سعيداً في مناكبها، فخلف كل هذا البهاء والاطمئنان تتلمس روحاً معذبة ملتاعة، تركض في السراب، وهرباً من العذاب، ثم توقظها العناية على مشارف النهاية لتعبر البرزم بجموح الشعر وسلطان الخيال وهيلمان المحبة المتدفقة، لتحول المعدوم إلى موجود، والشاهد إلى مشهود، والضائع إلى مردود… تلك هي سلطنة الزمن الشعري… وسلطة سلاطين العشاق الذين حمل (يحيى) لواءهم في القرن السابع عشر الميلادي.

One comment

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s