سلطان بن علي العويس

العويس أنموذجاً

سلطان بن علي العويس
سلطان بن علي العويس

لا أريد أن أقول في سلطان بن علي العويس رحمة الله عليه، ما قالته الخنساء في أخيها صقر:

وإن صخراً لتأتم الهداة به=كأنه علم في رأسه نار

ذلك أن شأن سلطان العويس وشأوه قد تجاوزا صورة جبل في قمته نار مشتعلة، يأتي إلى صاحبها الناس من أطراف الصحراء المترامية المنبسطة، وذلك على الرغم من جلالة هذه الصورة وعلو كعبها ومقامها أدبياً وفنياً ودلالاة تاريخية، الأمر الذي أبقاها في الأذهان صورة حية للعربي الكريم الفريد الأخلاق العزيز المنال على الدناءات، المقتحم للأخطار بوجه طلق ومنطق سديد ونزعة إنسانية أصيلة، تمنعه من التجاوز والافتئات، أو الاغترار بسلطة المال وسطوة الجاه، وجاذبية العطاء.

لقد تجاوز “أبو علي” تلك الصورة البدوية الناصعة، إلى صورة حضارية أكثر تعقيداً وأوسع إغداقاً، وأخلد أثراً، فرسم لنا بصورة أعماله نموذجاً للعربي المطلوب في زماننا هذا:

• العامل بإتقان وسعة خيال وحرفية تجعله نظير أي نموذج متفوق في عالمنا، وهو ما فعله سلطان في عالم التجارة والاستثمار والعمران.

• المدرك بعمق وبكرم روح أن المال ليس سوى وديعة لدى صاحبها، لا يمكن أن يندم يوماً ما على ما صرفه منها في أعمال الخير والبناء والترقية الاجتماعية، فالأموال لا تذهب مع أصحابها إلى العالم الآخر، أما الأعمال فتبقى آثارها في الدنيا، وتذهب جوائزها لصاحبها في حياته الأزلية الجديدة، وحقاً ما قاله الشاعر الذي أدرك شياً وغابت عنه أشياء: “نفسي التي تلمك الأشياء ذاهبة=فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا”. فالبكاء يحق على ما يذهب هدراً، أو يصرف سفهاً، أو ينتقص من المعاني النبيلة للحياة الشريفة.

• التوجه إلى عامة الناس بما يُـيسّر حياتهم ويوسع عليهم في العيش، ويجعلهم يُحيون الأرض بعد موات، وذلك ما فعله العويس في إقامته للسدود، والتوجه إلى الأجيال الجديدة بإتاحة مناهل العلم المفيد أمامها، مجاراة للعصر ولحاقاً بالأمم المتقدمة، وذلك ما فعله الراحل في أكثر من بلد عربي، والتوجه إلى خاصة الناس من المبدعين والعلماء، وذلك ما نهضت به جوائز العويس السخية النزيهة التي قل أن أجمع مثقفو العرب على أي عمل مماثل قدر إجماعهم عليها.

وإلى الغد…


العويس… أنموذجاً (2)

12 يناير 2000

كان سلطان بن علي العويس، رحمة الله عليه، نموذجاً للبساطة والوداعة والتواضع، وإذا كان “الصب تفضحه دموعه” كما يقال، فإن أبا علي كان وجهه وحركاته وسكناته مرآة لشفافية البساطة وبراءة الوداعة وعظمة التواضع.

وحين كان يسلّم جوائزه السخية للمبدعين العرب من كبار هذا القرن وأعلامه، كانت الأشعة من روحه النبيلة تسري فيهم محبّة وحناناً واتصالاً روحياً عميقاً، حتى لتشعر وأنت المتفرج البعيد خارج المحفل أنه من السعادة كأنما هو الذي سيستلم الجائزة وليس من يسلّمها، وكأن الشاعر العربي قد عناه بقوله:

تراه إذا ماجئته متهللاً=كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وفي هذه البساطة وتلك الوداعة وذلك التواضع تكمن الروح المتوثبة المبدعة الخلاقة لهذا الفارس، فما كانت بساطته تنم عن ضعف، ولا كانت وداعته تشي بقلة الحزم، ولم يكن تواضعه تواضع الرياء وطلب السلامة.

كان الرجل في موكب من قوة الوجود يفتح له أيّ طريق شاء سلوكَها، وكان من مضاءة الحزم بالدرجة التي مكنته من إدارة امبراطورية مالية مترامية دون أن يتخلى عن اهتماماته الثقافية والعاطفية، وعن عاداته فيما يمكن أن نستشفه من مداعبة صديقه اللبناني فؤاد الخشن له في إحدى المراسلات الإخوانية بينهما:

أيها السائر عنا حوّل=نحو سلطان الكسالى بن علي

قابعاً حت برانيس الضحى=مستلذاً بنعيم الكسل

وكان من عنفوان التمسك بما يراه حقاً، وضد ما يعتقده باطلاً، بحيث لا يبالي بالعواقب مهما كانت، لذلك فقد كان في بساطته قوياً، وفي وداعته حازماً، وفي تواضعه في الذورة من الشرف وصيانة النفس، وقد جمع كل ذلك في إهابه النحيل الذي لم تبطره النعمة، ولم يستنزفه الهوى، كأنه موصوف الشاعر الذي قال:

ترى الرجل النحيف فتزدريه=وفي أثوابه أسدٌ هصور

ويعجبك الطرير فتبتليه=فيخلف ظنك الرجل الطرير

ضعاف الأسد أكثرها زئيراً=وأصرمها اللواتي لا تزير

رحم الله أبا عليّ… فقد كان رجلاً في أمة، وأمة في رجل… فإلى الغد.


العويس… الشاعر العاشق (3)

13 يناير 2000

أقام سلطان العويس مملكة للعشق في عالم الشعر، وقد نذر نفسه وشعره لصيانة هذه (اللؤلؤة) الإلهية التي فاخر بها لآلئ البحار الصافية والفاتنة.

ولأنه قال الشعر الذي نشره بعد الأربعين، فإنك لن تجد في شعره تلك العنتريات الممجوجة والتي لا تنتمي إلى عالم المحبة المضيء، وإنما هي بعض إفرازات عقد الذكورة. وأراني مجازفاً إذ أنسب هذا الصفاء إلى مرحلة عمرية معيّنة، فمما لا شك فيه أن نفس الشاعر كانت عامرة بهذه المشاعر الإنسانية النبيلة تجاه المرأة بالفطرة.

لقد كان بإمكانه بما وهبه الله من واسع الثراء، وبسبب من طبيعته المحبة للجمال، أن يهدم المعبد كل يوم ويعيد بناءه، ولكنه أخلص إخلاص المحبين المتعلّقين بأستار الحب، والقابلين لتكاليفه وشروطه، فلم يسئ لمن أحب، بل إنه لم يسئ حتى لمن أسأن إليه، وشعره شاهد على هذا المعمار الجمالي الروحي الآسر، الذي لم يقبل مجرّد المقارنة بين جبروت المال وعطاء الحب، لذلك لم يقل كما قال نزار قباني:

بدراهمي… لا بالحديث الناعم=حطّمت عزّتك المنيعة كلّها بدراهمي

وإنما قال العويس العاشق والثري فعلاً لا مجازاً مثل نزار:

إليك مالي، فما مالي سوى ورق=لن يؤثر المال قلب قد سكنتيه

لي من عيونك أموال أكدّسها=ومن حديثك در لست أحصيه

لقد آثر – عن انتماء أصيل لعالم العشق – أن يترنم بآلائه، وأن يمجّد تجلياته، وأن يتذكر على الدوام الأشياء العذبة التي رحلت في الحياة، ولكنها لم ترحل عن نفسه الشاعرة:

ماذا أصابك يا “ليلى” من الزمن=هذي نوازله في وجهك الحسن

ثم يأخذ في تعداد مفاتن “ليلاه” التي كانت ثم تخطفها كأنه من مدرسة أبي نواس القائل:

زوّدينا من حسن وجهك ما دام=فإن الجمال حال تحوّل

وصلينا نصلك في هذه الدنيا=فإن المقام فيها قليل

ثم نكتشف أن ليلى الفاتنة قد تركت جرحاً في قلب العويس، ولكنه داواه بالمحبة حين قال لها:

لا تذكري الأمس إني لست منتقماً=كر الليالي يداوي علّة الشجن

أرى بوجهك وجهي أننا بشرٌ=وكلنا مدّع والحكم للزمن

لقد آثر أبو علي المحبة على الانتقام، وهكذا كل كريم عاشق…

فإلى الغد…


العويس… الشاعر العاشق (4)

15 يناير 2000

سيدخل فقيدنا الراحل سلطان بن علي العويس تاريخ الشعر العربي بوصفه واحداً من سلاطين العشق، وحداة الحب، وشعراء الهوى. وكانت للرجل رؤية تنظر إلى الحب بصفته أجمل معطيات الحياة، وأعظم هداياها، وأرق ينابيعها، وأشدها فتنةً وسحراً:

فلولا الحب ما ائتلفت قلوبٌ=ولا دارت كؤوس حول عود

والحب في عرف الشاعر وجود لا حدود له، يفاجئ المرء بالعجائب، ويغريه بالإبحار، ويداهمه بالأخطار، كما يكافؤه بالوصال، فهو معه بين مد وجزر، وبين ضحكٍ وبكاء:

أنا قلبُ تجاوره شفاه=لتسقطه على السهد المذاب

أسيراً أو جريحاً أو قتيلاً=وتلك سعادة القلب المصاب

وسلطان بن علي في الحب يشبه فالق الأصداف الحالم بالصدفة الكنز التي ستسطع اللؤلؤة في داخلها، كما يسطع الحب الحقيقي بعد آلام الصدود:

جمال الحب أن تلد الليالي=وصالاً بعد آلام الصدود

وهو في حالتي الوصل والصدود يهوم دائماً وأبداً في مملكة العشق الأزلية:

تغلغل الحب حتى صار لي نفساً=أعيشه نغماً في موكب العمر

وهو قد يكتفي من الدوحة الغناء بظلالها، ومن الحسناء بإلهامها:

أنا الظامئ الولهان في ظل دوحة=تنشّقها العشاق في كل أسطري

إنه لم يقل تنشقها القراء، ذلك أنه “لا يعرف الشوق إلا من كابده”، وقد كابد الشاعر وعانى، وزرع واجتنى، وحتى خاطب المعشوقة كأنها سلطان الزمان:

لو لم تضيئي حياتها عند ظلمتها=لكنت ذا بصر يمشي بلا بصر

يا فتنة ملأة دنياي فتنتها=أسقيت دفقاً فأنت الحكم فأتمري


العويس الشاعر العاشق (5)

16 يناير 2000

كثيراً ما كتب أن الشاعر سلطان بن علي العويس مقل في قول الشعر، ويقصد بذلك عدد القصائد والأبيات، وتنوّع الموضوعات، ولكنني أراه غير مقل، ذلك أنه قَصَرَ كل شعره تقريباً على الوجدان والعاطفة والهوى المشبوب، فأوفى في هذا الفرع الزاهي المتدفق من فروع الشعر العربي غاية يتمناها أي عاشق وأي شاعر ولا شك أن إبداعه سيتلألأ ذات يوم في جيد الغزل حين يعتـّقه الزمن، كما تتلألأ أشعار عمالقة الغزل العربي.

والقارئ لديوانه يجد نفسه في بستان يتضوّع بالعطور، ويترقرق بالمشاعر، وتتدفق فيه صهباء الوجدان، ولن يقال أبداً أن شعره أخذ حظه ومكانته لأن صاحبه ثري وله باع في أعمال الخير، أو نفوذ في دنيا الناس، وإنما لأنه شاعرٌ بالفطرة، مأخوذ بالجمال، متيّمٌ باللطائف، متسربل بالهوى:

ما إن أرى حور العيون بمقلة=إلا وغنت للعيون طيوري

أنا للجمال ضحية لا تنتهي=وفراشة للنار أو للنور

ومن مزايا هذا الشاعر أنه لم يكتب للإبداع الفني الخالص الذي قد يبهرك بجماله ورونقه مثل اللؤلؤ المكنون، ولكنه بارد الملمس، خال من الحياة إلا حين يشتبك مع عنق غيداء جميلة، أو يتدلى من أذني حسناء “بعيدة مهوى القرط”، فيصرخ كلاهما كما صرخ أبو فراس: “تكاد تضيء النار بين جوانحي”، نعم… إن أكثر شعر العويس قد كتب في معمعات الهوى، كهدايا من عاشق لمعشوقة، ولم يُقصد به النشر، ولم يتوجه إلى قارئ خارج صولجان الحب، لذلك تجده مفعماً بروح كاتبه، في عمق اللحظة، وكثافة القصف لقلب المعشوقة، شوقاً أو عتباً أو إعجاباً، لذلك يمكن القول أن هذا الشعر قد صيغ من مادة الحياة العاطفية ونيرانها المشبوبة، وسيبقى محتفظاً بهذه الروح:

مازال حبك يسقيني وأرتشف=لا النفس تروى ولا سلساله يقف

والحب يخلق في الصحراء جنته=فكيف والروض والأنغام واللطف

قد شاركتنا نعيم الحب وانطلقت=بناء الكؤوس فلا بخل ولا سرف

ومن لطائف هذا الشعر – الذي كتب في سن النضج والحكمة – أن صاحبه كان يعرف نعمة الحب عليهن ويقدرها حق قدرها، فقد ودع زمن الطيش، واستقبل زمن الكيف، ولطافة الذوق، وعرف كذلك قسوة الهجر، والخوف من تسرّب المحبوب في أرض الله الواسعة:

لا تنكري لهفتي والشوق يأخذني=أخذ الغريم متى من حقه منعا

ألبستني نعمة ما كنت أجهلها=فكيف وجدي وما ألبست قد نزعا


العويس… الشاعر العاشق (6)

17 يناير 2000

قالت: تحبّ؟ فقلت الحب منتجعي=له أغني… وفي مثواه أعتكف…

الحب عند سلطان بن علي العويس ليس مصادفة عاطفية، أو لقاء قدح شراراً فأشعل سهلاً، وإنما هو حالة وجودية وتقمص روحاني، وحياة هي الحياة وما عداها يأخذ مبرر وجوده بأن يكون في خدمة تلك الحياة.

ومن قرأ شعر سلطان ويتمعّنه يدرك أن الرجل قد خاض لجج الهوى، وغمار العواطف الحية، بالطول وبالعرض، وأن ما يشف عنه شعره ليس سوى أذن البعير كما يقال.

لذلك فإن جلساءه وندماءه وأصحابه من الأدباء معنيّون بإضاءة هذا الجانب البهيج من حياته، وتتبع الجهات والمهبات التي طارت فيها أوراقه الحاملة لأشعاره.

الحب في قاموس الشاعر مثل النار المقدسة لدى إنسان الغاب في العصر الحجري، ومثل الوصفة السحرية لإطالة العمر التي تبحث عنها البشرية منذ عهد جلجامش:

ليبق الحب مخترقاً فؤادي=فليس الحب إلا ما نحسّ

هيامي في هواك أطال عمري=فاسأل كل يوم أين أرسو

وهو اللغة العالمية الأقدم من كل اللغات، والمتعالي على كل الأجناس، والجامع لشمل الإنسانية:

فإن تكن لغتي ليست لكم لغة=ولا الديار دياري فالهوى قبسي

قد ترحم الحب ما بيني وبينكم=كل اللغات وأغناني عن الحدس

وهو انجذاب وانخطاف لا تجدي معه ملامة، بل ربما لا تجوز:

ولا يلام محب في تدلهه=دعاه شوق قلبي ثمة اعتنقا

وهو الحلم بأبدية مطمئنة، كأنما الحب سماء السرمدية وأقمارها وشموسها، وقد رسم الشاعر ذلك في صورة خلابة يندر مثلها في الشعر:

أيا شفة الحبيب ألن تنامي=على شفتي وينسكب العقار

ويبقى الليل ليلاً سرمدياً=فلا قمر يطل ولا نهارُ


العويس… الشاعر العاشق (7)

18 يناير 2000

يا أدمع الحب هل أبقيت لي مقلاً=تغفو لماماً فقد أضناني السهرُ

تركتني في الهوى أعمى بلا أذنٍ=فلست أعلم ما آتى وما أذرُ

هكذا هو الشاعر العاشق، قشة في مهب الريح، لا يكاد يستقر على حال، ذلك أن التوهج في الذروات المضيئة التي تثري الروح لا بد له أن يخفت وقد ينظفئ ولا يخلف وراءه سوى الرماد، ومن هنا سر الحسرة التي تطبع مسيرة العشق، والتي جعلت أحد أئمة عُمان يخاطب محبوبه بالقول:

يا من هواه أعزّه وأذلني=كيف السبيل إلى وصالك دلّني

وهذا الأمر لفت أحد الشعراء فقال:

مساكين أهل العشق ما كنت أشتري=حياة جميع العاشقين بدرهم

ذلك أنه لا الجاه ولا المال يغنيان عن مسرّة القلب الوامق والوجدان النابض، وكذلك كان سلطان بن علي العويس، الذي لا أظنه كان تاجراً استهواه الشعر، وإنا هو شاعر عاشق استهوته التجارة، وساعدته على تكاليف الهوى:

فما أنا في الحياة سوى جريح=يداوي آهه بين النحور

فقل للحب يعصف بالحنايا=وقل للحسن يعبث في مصيري

فغبن أن أرى لهو الليالي=ولا ألهو مع الوجه النضير

فلا تجعل من الأيام سجناً=فتخلعك الحياة من السرور

إنك مع العويس أمام مزيج عجيب لشخصية الروائي اليوناني الشهير كازانتزاكيس وبطله الأشهر (زوربا)، فهو في الحياة العملية ثاقب الرؤية سيد القرار مهاب التوقيع، وهو في الحياة العاطيفة متلاف، ينجذب إلى نيران العشق كما تنجذب الفراشات إلى نيران الحطب، ولا يبالي أين يستقر به النوى:

أبداً يجاذبني الهوى حبل النوى=فالمستقر بخاطري كالهارب

وعلى ضفاف الحب يسير شاعرنا كأنه أحد دراويش طاغور، حاملاً شبابته في فمه، وقلبه على كفه، يشيع الجمال، ويطرب قلوب الحسان:

لقد أدمنت حبك مذ تلاقت=عيون حين نادتها القلوب

فغنيت القصائد من فؤادي=كما غنى أليف عندليب

ولا يكتفي بهذا النزوع، وإنما يضيف إليه موروثه من أجداده العرب في مخاطبة الدمن والآثار، ولكن في صورتها العصرية، في تجليات مجالس النعيم:

أسائلها الكؤوس فهل تجيب=بأيتهن قد رشق الحبيب

فأملؤها وأرشفها تباعاً=يطل الصبح فيها والغروب

لقد كان العويس – رحمه الله – شاعر الحب بامتياز، وكان صريعاً للغواني بأصالة وأريحية ورؤية فلسفية، وهو القائل:

أمن الحب خلقنا نرتوي=أم ترى أنا خلقنا ما نحبّ؟!


العويس… الشاعر العاشق (8)

19 يناير 2000

دعوا الحب يأخذ ما تبقى فإنني=وجدت رماد الحب أقوى من الحب

إذا برعمت أزهار روض أخالها=أحاديث أشواقٍ من الصبّ للصبّ

أما إن رماد الحب أقوى من الحب عند شاعرنا سلطان بن علي العويس فما تلك سوى حيلة تشبه الهروب إلى الأمام كما يقال في الأمثال، أو أنها نوع من الترويض للمحبوب الجامح ليرى مصيره المستقبلي في مقبرة الرماد، فيحد من غلوائه، أو أنها تواطؤ مع النفس لعبور مطبات الهوى التي غالباً ما يجد العشاق أنفسهم وقد علقوا في براثنها، أما الحالة الحقيقية لشاعرنا فيترجمها البيت الجميل الثاني الذي يرى الحب حالة وجودية تشمل الكون كله، ولا يرى في برعمة الأزهار وتهيؤها لولادة الجمال ونشر العطر سوى أشواق محبين، وهذا هو الدرس الأول الذي أملاه العويس على (فاطمة):

قولوا لفاطمة الحياة جميلة=والحب فيها دفقة لا تنضب

إنه الحب المعلّم، الذي يستصلح مشاعر الإنسان البور، ويمهدها ليغرس فيها أجمل الأزهار في حدائق الوجدان:

سيظل الحب يعلّمنا=طرق الوجدان وأشواق الأحباب

وهو الحب الذي يعطي ويمنع حين يشاء، ومتى وأين وكيف يشاء، أما لماذا؟ فذلك ما استعصى على الأفهام، وغاب عن البيان، ذلك أن كيمياء الحب ما زالت مستعصية على المختبرات:

أرى الحب يا ليلى سبيلي ومنهجي=فإن شاء أن يعطي وإن شاء يمنعُ

والحب يتعب الشاعر العاشق، ومع ذلك فإن طريق راحته هو التعب والكد والتشريق والتغريب في فجاج الهوى ووهاده، وفي بحاره ومحيطاته، وإن كان يتمنى أحياناً لو كان له خلاصٌ مما لا خلاص منه:

ليت الهوى فيه آمادٌ محددةٌ=أجتازها خطراً كي ينتهي الأمد

وسيّان إن كان الشاعر العاشق سليماً أو مصاباً، فإنه يجد راحته في العناء، وفي انتظار الذي يأتي ولا يأتي:

برغم الذكريات ورغم أنفي=سأبقى أستزيد البعد بعداً

وأعلم أن شوقي في ازدياد=ومثل عظيم حبي لن يجدا


العويس… الشاعر العاشق (9)

20 يناير 2000

وقالت سُليمى ما عهدتك شاعراً=فقلت لها إن القلب المصاب ينوحُ

إذا مسّ قلب المرء بعض من الهوى=سيرتد بعد العي وهو فصيح

الشعر كما يراه فقيدنا سلطان بن علي العويس ليس سنى استجابة موفقّة لتحديات الهوى ولواعجه كما يستجيب البحر لعواصف الطبيعة العاتية بالأمواج العالية والحركة الصاخبة. والهوى في هذه الحالة ليس مقصوراً على ما يحرّك ويستثير نوازع النفس الإنسانية ويصيبها بالدهشة أو الصدمة مما يفقدها توازن الإعتيادية، ويستعصي على لغة الحاجة باتجاه تخوم الشعر، وعوالم لغته المجازية النورانية.

لكأن عاشق اللؤلؤ قد أدرك بعمق علاقة الجمال بالألم، فالدرّة الباهرة ليست سوى قصيدة الألم التي كتبها الكائن البحري الجريح، وكذلك شعر الوجدان يصدر عن القلوب المصابة، وبمقدار ما يستنزفها بمقدار ما يحررها من النظرة البكماء إلى الحياة والكون…

إذا مسّ قلب المرء بعض من الهوى=سيرتدّ بعد العيّ وهو فصيح

وإذا كان الشعر هبة الجمال، فإن الشاعر هبة الشعر، والوجدان الجماعي المتسامي هو هبة الشعراء ورسالتهم الخالدة في الحياة. من الذي كان بإمكانه الإصغاء إلى هواتف الحُسن وشلالاته المتدفقة في الكون إن لم ينهض الشعراء بتلك المهمة النبيلة؟ وما أظن الإشراق الأغرّ وتموّجات الخفر في وجوه الفاتنات الحِسان سوى بعض إضاءات دموع الشعراء وبكائياتهم على الأطلال.

ولا يحسبنّ أحد أن الإطلال هي الدمن والأثافي وبقايا القلوب المحترق، وإنما هي نبض القلوب التي تشظت وتعفّرت بالتراب، ورحلت أجزاء منها شرقاً وأخرى غرباً، فيما هوّمت نثارات منها تتنسّم الجنوب، وتتحسس رياح الشمال، ونحن مع شاعرنا العويس في ترحال دائم بين حضور الغياب وغياب الحضور، حيث يترقرق الحُسن كلآلائ في الصحراء:

إن تكن ليلى أصابت مقتلاً=فقديماً كنت للحُسن هدف

كلما الشطآن لاحت أو دنت=قذفتني في هواها فعصف

قال عذالي كثير مثلها=قلت: امضوا واجعلوا منهن صف

ثم هاتو حكماً من أهلكم=أترى الشمس تغطي بالأكف

لا يا أبا علي… إن الشمس لا تُغطى بالأكف، رحمك الله أيها الشاعر الذواقة، فقد أَغنيت وجداننا بالجمال بما لا يقوّم بميزان.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s