كان (البردّوني) أشبه بجسّاسي المياه التي يرونها ويسمعون خريرها في أعماق الأرض، ولكنهم لا يستطيعون الوصول إليها، وقد يموتون من العطش، لذلك فإنه قد أخذ على عاتقه التبشير بالخصب القادم، بالربيع الذي يولد من صقيع الشتاء، بالإنسان المتمرّد على قيوده وسجّانيه. وكان هو يجسّد في مسيرته الشخصية ومعاناته البطولية ذلك النموذج القادر على تجاوز درب الآلام، فقد علّم نفسه في أسوأ ظروف يمكن تخيّلها، فجاء آية في النابغين، أشبه بالصّلب النقي الذي تخلص من أدران الحديد وقابليته للفساد، نعم: أصبح (البردّوني) الأعمى أكثر الرائين رؤية، ينظر للجميع بالنيابة عن الجميع، ولطالما كان يستشعر نفاذ البصيرة لديه، فيضحك من سذاجة المفتّحين، فيردد البيت الشهير
|
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم
قد ضلّ من كانت العميان تهديه
|
ولا والله ما قاد الناس إلى ضلالة أبداً، فقد كان بمثابة الضمير الجماعي الذي صقلته تجارب العصور، والذي لا يخدعه الآتي والمؤقت عن الجوهري والمستمر. ولأنه نذر نفسه لكفاح لا هوادة فيه، فقد كانت المسرّات والأحزان تتساوى في عقيدته التي تستطيع تصنيفها بثقة بأنه متفائلة بطاقات الحياة الخلاقة، وبقدرات الإنسان غير المحدودة على تجاوز العثرات، بل وتحويلها إلى انتصارات، حتى وإن كانت تتجرع كؤوس الموت الصّاب والعلقم:
|
تسلياتي كموجعاتي وزادي
مثل جوعي وهجعتي كسهادي
وكؤوسي مريرة مثل صحوي
واجتماعي بإخوتي كانفرادي
والصداقات كالعداوات تؤذي
فسواء من تصطفي أو تعادي
إن داري كغربتي في المنافي
واحتراقي كذكريات رمادي
يا بلادي التي يقولون عنها
منك ناري ولي دخان اتقادي
العصافير في عروقي جياعٌ
والدوالي والقمح في وادي
هذه كلها بلادي وفيها
كلي شيء إلا أنا وبلادي
|
يالها من سخرية مريرة تعادل مرارتها قوّة الحلم، وفاجعة الانتظار المخيّب لكل الآمال، فكل شيء موجود في الوطن إلاّ الإنسان والوطن… هل ترى هذه الرؤية تشمل العربي من المحيط إلى الخليج؟ ربما…