محمد الماغوط

MohamedAlmaghoot
محمد الماغوط

محمد الماغوط… حزيران الحروف
28 مايو 1999
عودة إلى محمد الماغوط، كحلم اليتيم بحضن أمه، كحنين كلمة ترتجف من العشق إلى فم شاعر مرهف، كشوق شجرة مقتلعة من جذورها إلى دفء التربة وعطاء الماء، عودة إلى كلماته التي تلمع كجراح الفرسان، وتحترق كالشهب المنثالة: “آه كم أتمنى لو أكون في هذه اللحظة، محموماً في قرية بعيدة، على سرير غريب، وتحت سقف غريب، وامرأة عجوز لم تقع عيناي عليها من قبل تسألني وهي تعصر منديلها المبلل فوق جبيني: “من أي بلادٍ أنت يا بُني؟” فأجيبها والدموع تملأ عيني: “آه يا جدتي…”.

هذه الـ “آه” والنقاط بعدها هي التنهدية التي تجعل العربي يتقزّم حتى لكأنه لا ينتمي إلى أمة قال عنها شاعرها إرهاصاً قبل أن تكون عياناً:

ملأنا البر حتى ضاق iiعنا
وظهر الأرض نملؤه سفينا

هي التي تجعل من العربي عالة على نفسه، لأن نفسه التي بين جنبيه لا تعترف به، ويشعر تماماً أنها ترفض انتسابه إليها:

وإذا  كانت  النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام

هذه النفس الكبيرة وجدت في زمن صغير:

ودهر  ناسه  ناس iiصغار
وإن كانت لهم جثث ضخام

عودة إلى محمد الماغوط القادم من عنفوان الصخر وسحر الماء، يكتب الغضب غير مبال بالغضب على الغضب “لأني ما انتفعت بأن أبالي”، الماغوط الذي لم أعد أسمع عنه منذ زمن، ربما لأنني أصم، مازالت رسالته “إلى القرية” منقوشة في خاطري:
“مع تغريد البلابل، وزقزقة العصافير، أناشدك الله يا أبي: دع جمع الحطب والمعلومات عني، وتعال لملم حُطامي من الشوارع، قبل أن تطمرني الريح، أو يبعثر في الكناسون. هذا القلم سيوردني حتفي. لم يترك سجناً إلا وقادني إليه، ولا رصيفاً إلا
ومرّغني عليه، وأنا أتبعه كالمأخوذ، كالسائر في حلمه”.

أتراه الماغوط سكت… أطبق فمه في صمت الكلمات، ونزيف الحرابة، حيث لا الحراب تطعن، ولا الإنكسار أعظم سالبٍ للحرية:
“آه… الحلم… الحلم… عربتي الذهبية الصلبة، تحطمت، وتفرق شمل عجلاتها كالغجر في كل مكان… حلمت ذات ليلة بالربيع، وعندما استيقظت كانت الزهور تغطي وسادتي، وحلمت مرة بالبحر، وفي الصباح كان فراشي مليئاً بالأصداف وزعانف السمك، ولكن عندما حلمت بالحرية، كانت الحراب تطفو فوق عنقي كهالة الصباح، فلن تجدوني بعد الآن في المرافئ أو بين القطارات، ستجدونني هناك في المكتبات العامة، نائماً على خرائط أوروبا نوم اليتيم على الرصيف، حيث فمي يلامس أكثر من نهر، ودموعي تسيل من قارة إلى قارة”.


إلى أين أيتها الغيمة..؟
6 أبريل 2006
رحل محمد الماغوط، الغيمة التي تنزّلت على ثقافة الغضب العربي بالمنّ والسلوى، وبالسيول الهادرة كطوفان نوح، ونحن معه؛ منذ كان في ذلك الركب الضائع، الذي يتلاطمه الموج ولا يجد جبلاً يعصمه، وما دام قد ترجّل وألقى بنفسه وجسده إلى الأسماك المتوحشة، فلن نجد بعده من يرشدنا إلى المرفأ في ظلمة الليل وظلمات اللُّجة، وقد كتب علينا أن نَعْلَقَ في الدوّامة إلى ما شاء الله تعالى.
رحل الماغوط من حيث يكره إلى حيث يحب، ليبحث عن سلام آخر، ووطن آخر، ذلك أن الغيوم وطنها بالكون، وهي تمرع حيث تترع، وقد ترك لنا من الزاد ما يكفي إذا كنا نحسن القراءة، ونجيد فتح الأبواب بعد إغلاقها:
“من قبل قلت، آه لو يتم تبادل الأوطان كالرّاقصات في الملاهي، والآن أقول: آه لم يتم تبادل الأسرى مع أوطانهم في كل حرب، لأنني منذ الطفولة، كلما تحرّكت ستارة سترتُ أوراقي بيدي كبغيٍّ ساعة المداهمة”.
علّمه السجن كيف يعشق الحرية، وعلمته الحرية كيف يجوع، لذلك لم يتصالح مع عصره ولا مع نفسه ولا مع الناس: “لكي تكون شاعراً عظيماً في أي بلد عربي يجب أن تكون صادقاً، ولكي تكون صادقاً يجب أن تكون حُراً، ولكي تكون حراً يجب أن تعيش، ولكي تعيش يجب أن تخرس”.

الخرس هو المهنة الوحيدة التي لم يستطع الماغوط تعلّمها، ومشكلته أنه نال قسطاً من التعليم فوسم نفسه بقدر من النباهة لم يتحملها الزمان الفاجر: “أشعر بالندم لأنني تعلمت أن أقرأ وأكتب، كنت أتمنى أن أظلّ ذلك الفتي الأميّ الذي يرعى الغنم، ويعيش في القرية حياة الغجر”. نعم إنها أمنية، ولكن الوجه الآخر للقرية سيصمت إلى الأبد إذا لم يجد شاعره، وسيطويه النسيان والأبدية المتوحشة: “ولدت في سَلَمِيّة، وهي قرية نائية، رجالها لا يتورّعون عن ضرب أشجارهم بالسّوط لأنها لم تثمر في الوقت المحدّد”.
وحين ترك كلية الزراعة مُقرفاً، ورأى عاليها كسافلها، وكله عند العرب صابون، واسى نفسه بالقول: “إن اختصاصي هو الحشرات البشرية، وليس الحشرات الزراعية”. وقد قضى عمره الباقي يحمل برميله على ظهره، يرش المبيدات دون جدوى ولا فاعلية، وتقول زوجته الشاعرة سنية صالح أخت خالدة سعيد زوجة أدونيس: “ذروة المأساة كانت في إصراره على تغيير هذا الواقع وحيداً لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشّعر، وبقدر ما تكون الكلمة في الحلم طريقاً إلى الحرية، نجدها في الواقع طريقاً إلى السجن”.

الماغوط لم يغادر دمشق إلا إلى بيروت التي قال عنها: “لا مستقبل لأمة كان لديها بيروت فأضاعتها”، وقد واظب على زنزانته، الوطن ينقشه بدمه، ويخشى أن يرى الناس دموعه: “عندما أتعب أضع رأسي على كتف قاسيون وأستريح، ولكن عندما يتعب قاسيون على كتف من يضع رأسه؟”، كان يدرك صعوبة “صخرة سيزيف” التي ترتد على حاملها: “ليس عندي سوى هذا الحزن المنتشر فوق رأسي كمخالب النسر، أنا مجرد إنسان فقير ومحطّم”.
لقد رحل الماغوط ولم يرحل، وسيظل يراقب الفجر مع البؤساء: “بدون النظر إلى ساعة الحائط، أو مفكرة الجيب، أعرف مواعيد صراخي وأنا هائم في الطرقات، أنظر خلسة إلى الشرفات العالية، إلى الأماكن التي ستبلغها أظافري وأسناني في الثورات المقبلة، فأنا لم أجع صدفة، ولم أتشرد ترفاً أو اعتباطاً”.
لا نقول وداعاً… وإنما إلى اللقاء.


حزيران الحروف
5 يونيو 2007
لا تتوقف عن الغناء يا عندليب، في السنة نفسها لا يمكن للربيع أن يأتي مرتين، هل نستطيع أن نقول عل نسق الشاعر الياباني (فوجيوارا أوكيكازا): “توقف عن البكاء أيها العربي، ففي السنة نفسها لا يمكن أن تدهمك الفجيعة مرتين”. مع الأسف لا نستطيع قول ذلك، لأن الفجيعة مقيمة بين أضلعنا، تدهمنا بعدد ثواني أيامنا وليالينا، فهل لو شهد الياباني المتوفي القرن التاسع الميلادي بُروكَ بِلاده على ركبتيها أمام الغازي الأمريكي في الحرب العالمية الثانية كان قد طلب من العندليب أن لا يتوقف عن الغناء؟ الأحرى أن يطلب منه احتراف البكاء.
الحزيراني بامتياز محمد الماغوط تقلّب بين النار والجليد وكلاهما صاعقان: “أيتها الدموع المسترسلة على الكتلف، سأصف لك قوافل الريح والرصاص، في براءة الحجل ومكر الجزار، ولكنني ظمآن، أكاد أسقط في كل لحظة، إنني أبتسم، وفوق ظهري سنمٌ من
الدّموع”.

وفي (رسالة إلى القرية): “مع تغريد البلابل وزقزقة العصافير، أناشدك الله يا أبي، دع جمع الحطب والمعلومات عني، وتعالَ لملم حُطامي من الشوارع، قبل أن تطمرني الريح أو يبعثرني الكناسون”، أتراها صورة للعربي عقب الريح الصفراء!!
الذين بركوا بين أنقاض الحروب، وتسلّلوا عبر الليل الكئيب لاحقاً ودماؤهم تنزف على التراب المحترق، ليلتحقوا بأول خيط نور لمع في عيونهم، ومنه استدلّوا على الطريق المضاد ليواجهوا العدو بوسائل أخرى، تعذيب الذات دليل على أن الهزيمة ما تزال تحفر في اللحم الحي، وإن العقل لم يفارق انكساره، أترى كان محمد بن زريق البغدادي قد أدرك هذه العلة التي تصيب الأفراد كما تصيب الجماعات؟:

لا   تعذليه   فإن   العذل   iiيولعه
قد  قلت  حقاً  ولكن  ليس  يسمعه
جاوزت  في  لومه  حداً  أضرّ iiبه
من  حيث  قدّرت  أن  اللوم  ينفعه
فاستعملي  الرفق  في  تأنيبه  iiبدلاً
عن لومه فهو مضني القلب موجعه

نعم… مُضني القلب موجعه، لا يميز ألوان الطيف، وهاتفاً مع المعرّي:

أما   اليقين   فلا   يقين  وإنما
أقصى جهودي أن أظنّ وأحدسا

أصحاب القلم ومقتاتو الحرف كانوا عبر العصور وقود الطبخة الأولى، يحترقون في أتونها ويشيرون إلى القطيع المندفع لعلّه أن يتجنّب الجُرف السحيق، وربما كان الشاعر الكبير سليمان العيسى في مشاكاته للدكتور عبدالعزيز المقالح قد لامس هذا المعنى: “سُدىً تتقصف الزفرات في قلمي وقلمك… سُدىً تحكي الحروف الحمر عن ألمي وعن ألمك… سدىً يا شاعري نقف على الجُرف السّحيق، وننذر القاصين والدانين أن القادم جُرفٌ… أيمكن أن نرد بهمسةٍ أو صرخةٍ عن أهلنا الخطر؟ أسمّيهم… تسمّيهم، برغم جميع ألوان الكوارث أهلنا ونحدّد الخطرا… ونصرخ آه لو كان لغير الريح والزفرات صرختنا… سدىً يا شاعري… لكن أنصمتُ؟ تلك منذ البدء كانت تلك قصتنا…”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s