بعد أن خسرت المال المؤكد نقداً وعداً… وربحت الصحة المشكوك فيها، كان عليّ أولاً أن أستوعب الموقف على ضوء مقولة الفرنسي صاحب الفندق التي ابتعلتها وأنا أغصّ بها كدواء مر، واتخذت منها عكازة أستند إليها إلى يومنا هذا كلما ذكرت الموقف أو تحدثت عنه: “لقد خسرت المال وربحت الصحة”… ليكن… أنا الرابح إذاً… وهذا أول ربح في حياتي له مذاق العلقم… تذكرت ذلك المثل الشعبي عن الراعي الذي ذبحوا أحبّ تيوسه إليه وكانوا يشهّونه باللحم اللذيذ فيردّ عليهم وهو يهذي: “يا فرحتي باللحمة، يا غبني على التيس”.
حسمت الأمر بيني وبين نفسي على الوجه التالي: هذا المبلغ كان مخصصاً للصرف لمدة شهر… طار أسبوعان… وبقي أسبوعان… أنا مقتنع، وبقي أن أقنع الأطفال وأمهم.
تمالكت نفسي واستعدت رباطة جأشي وصعت إليهم: يا شباب، تعبنا من (باريس)، وأكل (باريس)، وأهل (باريس)، ألم تشتاقوا مثلي لـ(الإمارات)؟ نظروا إليّ كالثعالب الصغيرة وقد توجّسوا كلاماً وراء الكلام.
فجأة رن جرس التليفون، وما من أحد يعرف رقمنا غير (وليم ويصا)… رددت فإذا على الخط الدكتور (عبدالله النويس) وهو يقهقه من أعماقه إذ يقول: “وقعت يا شاطر…” قلت: “بدل ما تواسيني… يا أخي: مشيناها خطاً كتبت علينا… ومن كتبت عيه خطاً مشاها…” أدركت أن (ويصا) قد طيّر الخبر، قلت في خاطري: المسألة تحتاج إلى دهاء وإخراج، ففي الأخير أنا الذي سأدفع الثمن، و”اللي إيده تحت الحجر يسحبها بالبصر (بالرويّة)”.
وجاءني الإلهام من نكتة رواها لي طبيب العيون بمستشفى الجزيرة الدكتور (عيدروس صالح صادق) عن عاملين مهاجرين من قرية واحدة، سافر أحدهما إلى بلده فيما بقي الآخر، وعند عودة الأول سأله عن أخبار أهله فأجابه: “كل شيء تمام والحمد لله، فقط، مات قطكم…” ولم يكن الرجل يعرف أساساً أن لديهم قطاً… ولكن من باب المسايرة في الحديث سأله عن السبب فأجابه: “اختنق برئة ثوركم…”وماذا جرى للثور؟ ” “ذبحوه في عزاء الوالد”… “يا إلهي… الوالد توفي… كيف؟”… “والله يا أخي مات حزناً على الوالدة… ليش ما سمعت؟” “أمي… يعني ما ظل في البيت غير أختي المسكينة…” رد عليه صاحبنا الذي بدأ بـ “كل شيء تمام والحمدلله وما مات غير القط” قوله: “الوالدة ماتت حزناً على أختك التي سقطت من الطابق الرابع…” وكان عليّ أنا أيضاً أن أنهي مشروع السفر إلى جنوب فرنسا وكذلك المشتريات.
وهكذا بين الجد والمزاح والتشويق والتخويف وصلت إلى حل ودي مع الأطفال وأمهم يقضي بالسفر في أول صيف تنفرج فيه الأمور… وطبعاً… لم يأتي ذلك الصيف منذ عام 1990… ذلك العام المجيد الذي كسبت فيه الصحة.
كل هذا ولم نصل إلى وليمة (وليم زكي ويصا) وما جرى فيها من المضحكات المُبكيات… فإلى الغد.