دفاتر السفر (1)

كما أن الإنسان ممتلئ بالعجائب التي لا تنتهي والتي قد لا يدرك منها سوى ما لا يكاد يذكر: “وتزعم أنك جرمٌ صغيرٌ… وفيك انطوى العالم الأكبر”. فإن السفر كذلك مليء بالمفاجآت والجوائز التي بعضها لا يقدّر بثمن، لأنك في مألوف حياتك العادية لا ترى وإن كنت ترى.. فالشارع الذي اعتدت المرور به يومياً تعبره بالذاكرة وليس بالعينين على الرغم من أنه يزدحم كل يوم بوجوهٍ جديدة، وتمر به الفصول والصباحات المشرقة، وكذلك الأمسيات الحالمة، ومع ذلك فإنه لا يكاد يحرّك فيك شجناً… إنه الملل الذي تخلقه الألفة وتكرّسه العادة، ويؤججه التكرار. أنت بحاجة لأن تحزم حقائبك وترحل لكي تستعيد عيناك قدرتهما على الرؤية والدهشة، وتطرب أذناك لأنغام الطبيعة التي حجبتها عنك المدينة التي لا تمنحك سوى ضجيجها العشوائي. أنت لا تفتقد المدن التي تعرفت عليها وغادرتها، وإنما تحملها في داخلك كأجمل ما تكون، فإن لم تسعدك اليوم فستسعدك غداً في حديث رائق مع الأصدقاء، أو خلال جلسة تأمل، أو تقفز أمامك وأنت تطالع إسمها في صحيفة، وقد تضيف إليها حيوات أخرى إذا ما كانت مسرحاً لفيلم من الأفلام، أو مكاناً لعمل روائي يسبر أغوارها الماضية وأزمانها الراحلة.

حقاً إنه لا شيء يفنى في هذا الكون حتى النظرة العابرة إذا ما كنا واعين لها. أتذكّر زيارتي إلى (باريس) وسيمفونية المطر التي استقبلتني، لكأن هذه المدينة أهدتني ما أحب، ولن أستطيع أن أراها إلا مدينة ممطرة، إنه الحب من النظرة الأولى… ذلك الهوى العنيف الذي لوّع الشعراء وكوى قلوب العشاق. كانت صباحية جميلة عبرنا فيها (الشانزليزيه) وهو خالٍ من الناس وتوقفنا قليلاً عند مقهى رصيف لم يمسح النوم بعد عن عينيه، كان الأولاد فرحين وقد طار النوم من أعينهم، وكنت أكثر فرحاً منهم بالطفل الذي يعشش في داخلي، ولا يقبل أن يكبر أبداً كأنه ليلى المجنون.

لم  تزل (ليلى) بعيني طفلة
لم تزد عن أمس إلا أصبعاً

وحين تأخرنا في (يورو ديزني) وانتصف الليل علينا في محطة مترو موحشة تحت الأرض في ليلة أحد – حيث تتوقف القطارات لبضع ساعات – ارتجّ الأمر عليّ وشعرت بالخوف بحملي الثقيل من الأولاد، فقررنا الخروج من المحطة، فإذا بالشارع يضج بالحياة… وأيّ حياة، لقد كنا دون أن ندري في محطة الحيّ اللاتيني الشهير الذي لا ينام…

من ذكّرني بالأسفار… أين ومتى؟!

اترك تعليقًا