بلند الحيدري

بلندي الحيدري
بلندي الحيدري

وداعاً.. بلند الحيدري
تعرفت على بلند الحيدري معرفة ضوئية، سريعة وشفافة، ترك في النفس انطباعاً لا يخبو من عينين مترعتين بالحزن، ووجه معطر بالتعب، ونفس محبة للناس, وادعة مسالمة، مطمئنة إلى غنى الشعر وقدرة الروح على الطيران.
كان ذلك في بغداد، في وقت ما من أواخر السبعينات، وقد انحسرت الأضواء عن جيل الرواد الذين ينتهي إليهم بلند الحيدري، وبينهم السياب ونازك وعبدالوهاب البياتي، ولكن قيمتهم مستقرة في النفوس، وزرعهم قد أثمر وآتى حصاده وأُكله، وما من أحد يجرؤ – رغم الضجيج الذي كان يصخب في أمسيات إتحاد أدباء العراف وفي صالته وحديقته المفتوحة على السماء – أن يمس أولئك الرواد، لأنهم في زمن الشلق السياسي، مثل ملح الأرض الذي إذا فسد فكيف يملِّح. كان بلند يقتعد طاولته، يمسح بعينيه الحزينتين نبت الشباب الفض الواعد بعنفوانه وهشاشته، وكان في كل الأحوال رفيقاً ليناً متعاطفاً مشجعاً لا يجرح حتى النسمة العابرة.
ولد بلند أكرم الحيدري في عام 1926 في بغداد، من عائلة كردية، ولم يتم دراسته الثانوية، ولكنه ثقّف نفسه بنفسه، وقد عمل معاوناً للمدير العام لإدارة المعارض ببغداد، وأستاذاً للغة العربية بلبنان، ورئيساً لتحرير مجلة العلوم اللبنانية، ومديراً لتحرير مجلة آفاق عربية، ثم ترك العراق إلى لندن، وشغل منصب المدير العام لشركة باميكاب التي أصدر عنها مجلة فنون عربية حتى عام 1982.
آخر مرة رأيته فيها كانت قبل أيام قليلة، وكان ذلك عبر شاشة الـ MBC من لندن، حيث كان يواصل مهمته وهمه الحضاري في تنشئة أجيال عربية جديدة من الشعراء الشباب عبر برنامج للمسابقات الشعرية، ولفت نظري مرة أخرى تلك الروح الأبوية الحادية في احتضان المواهب والدفع بها برفق ومحبة إلى مراحل أعلى من الإبداع، كما تنبهت – بصورة استثنائية – إلى التقاطاته الحساسة للصور العميقة الشعرية المؤصلة ثقافياً ومعرفياً، دون التفات إلى بهارات الجانب الشكلي من الحداثة. وبدا لي مرهقاً، ينوء بأعوامه السبعين رغم فتوة الفكر والنظر.
لم أكن أعرف أنها النظرة الأخيرة لهذه الحياة الدافقة المتدفقة منذ أصدر ديوان الأول خفقة الطين عام 1946، أغاني المدينة الميتة 1952، قصائد أخرى 1957، جئتم مع الفجر 1961، خطوات في الغربة 1965، رحلة الحروف الصفر 1968، أغاني الحارس المتعب 1977، حوار عبر الأبعاد الثلاثة 1972، المجموعة الكاملة 1975، إلى بيروت مع تحياتي 1985، وأخيراً أبواب إلى البيت الضيق عام 1990م.
إضافة إلى الدواوين لبلند الحيدري هناك مجموعة مؤلفات (زمن لكل الأزمنة) “دراسات في الفن التشكيلي” نقاط الضوء، مداخل إلى الشعر العراقي الحديث، وقد حصل على جائزة إتحاد الكتاب اللبنانيين عام 1973، كما تُرجم له ديوانان إلى الإنجليزية، وترجمت العديد من قصائده إلى عدة لغات عالمية.
وداعاً بلند الحيدري… الرجل الذي أحب الصيف والضوء والوضوح، وكان يخاف أن يقضي غريباً في شتاء أوروبى فحقق الله له نصف أمنيته، قابل ربه في الصيف وفي بلد عربي (المغرب) حيث كان يشهد احتفالات أصيلة، ولكن بعيداً عن العراق كرفيق دربه السيّاب، وقد تجنب أن يعود إلى العراق كما عاد أحمد الصافي النجفي أعمى محمولاً على محفة وهو يردد:
يا عودة للدار ما أقساها=أسمع بغداد ولا أراها
لقد كتب بلند تحت عنوان شيخوخة:
شتوية أخرى

وهذا أنا

هنا

بجنب المدفأه

أحلم أن تحلم بي … امرأه

أحلم أن أدفن فى صدرها

سرا

فلا تسخر من سرها

أحلم أن أطلق فى منحنى

عمري سنى

تقول :

….. هذا السنا ملكي فلا تقرب إليه

امرأة

هنا

بجنب المدفأة

شتوية أخرى

وهذا أنا

أنسج أحلامى وأخشاها

أخاف أن تسخر عيناها

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s