العقل العربي في محنة ،فهو ممنوع من التفكير والجهر بما يرى مما يخالف المألوف، فكيف لأمة أن تتقدم إذا كان عقلاؤها يرددون كالببغاوات ما وجدوا عليه آباءهم ممن سادوا ثم بادوا فيما حياتهم المعاصرة تتحداهم بالمعضلات الجسام والعالم من حولهم يعيد صياغة الحضارة ويملأها ويرفدها بكل جديد من إرهاصات العقل وبدائع الصنع وثمرات المختبرات ؟ كيف يمكن أن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، إلا إذا استوت الظلمات والنور ، وهذا من باب المحال ، وهدر الزمن الثمين في ما لا طائل منه ولا جدوى.
لقد جربنا على امتداد قرنين من الزمن عبادة الماضي وتحكيمه في أمور دنيانا الجديدة فنزع ذلك التجريب عنا القوة والمنعة وهُنَّا في نظر الأمبراطوريات الاستعمارية التي كانت تجوب العالم بحثا عن نقاط الضعف ومواضع الخذلان والقابلية للاستعباد، وقد صنفونا ضمن الشعوب التي بلغ بها الوهن مرحلة القابلية للاستعمار فاجتاحتنا جيوشهم ونهشتنا أطماعهم وكبلتنا قوانينهم وأنظمتهم ، وقد وجدوا أن أفضل الوسائل لاستمرار هيمنتهم واستمرار رضوخنا وإذعاننا لهم أن يتركونا نتخبط في دياجير جهلنا نلوك الكتب الصفراء ونمارس أعمال الشعوذة ، وننتظر النصرة من الجن والقوى الخفية ، مبتعدين عن طرائق التمدن والاعتماد على الذات والبحث العلمي ، والنظر العقلي ، وكان ما كان من الاستسلام المديد للواقع المهين حتى نشبت الحربان العالميتان بين الدول الاستعمارية الأوروبية المهيمنة وتلك المتطلعة إلى خيرات المستعمرات تبحث عن نصيبها وهي تدرك أنها لن تناله إلا بالقوة حيث لا يفل الحديد إلا الحديد ، وقد خرجت أوروبا من هاتين الحربين منهوكة القوى مدمرة الاقتصاد ينتابها الخوف والفزع من المجهول مع تسارع التطور العلمي في أمريكا والاتحاد السوفيتي والذي وصل ذروته باختزاع السلاح النووي الذي دمر اليابان وأجبرها على الركوع والاستسلام ، وأيقنت الدول الاستعمارية أن شموسها قد أوشكت على الانطفاء وأن طاقاتها لا تسمح لها بمنازلة اللاعبين الجدد ، فانحسرت ظلالها على المستعمرات كرها وطوعا ، مفسحة المجال للاستعمار الجديد الباحث عن الموارد دون خوض المهالك وإنما بالترغيب والترهيب والتحالفات والغزو الفكري الذي أثبت أنه أمضى من الجيوش والمدافع وأقل تكلفة ، وفي هذا المناخ الذي دشنه المنتصرون في الحرب الثانية وعلى قدر أوزانهم ، نشأت الأنظمة في العالم الثالث في حقول من الألغام الموروثة عن حقبة الاستعمار وما سبقها من عصور ظلامية ، وقد اختار أغلبها التبعية ليشعر بقدر من من الأمان الداخلي والخارجي ويضمن شيئا من العناية والرعاية من قبل حكام العالم الجدد الذين انقسموا إلى معسكرين خصيمين رفعا شعار «من ليس معنا فهو ضدنا» وقد جرى الاستقطاب المبطن بالمصالح والمغلف بالايدلوجيات دون أن تتاح الفرصة لهذه الدول الناشئة أن تلتقط أنفاسها وتراجع مناهجها وتبني مؤسساتها ، وقد أنتج هذا التشوه ثماره المرة ، من أنظمة استبدادية وحجر فكري ، ونخب فاسدة نهَّابة وعلماء ليسوا من أهل الرحمن ، وإنما من فقهاء السلطان ، وقد تدهورت معيشة الشعوب وعانت الويلات من الحروب ولم يعد هناك فارق بين مستعمر خارجي ومستعمر وطني ، حتى وصل الحال ببعض اليائسين إلى القول : جاء الاستعمار ورحل ، وجاء الاستقلال فمتى يرحل ؟.وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القلوب قد فاضت إلى الحناجر من الكبت والصبر المر ، وأن السيل قد بلغ الزبى ، وأنه لابد من تحرير الإنسان من عسف المحرمات و«الناتو» وإطلاق قوى العقل والتنوير ، فلا يزال الناس في كرب «وحرب» وبلاء وفتن وتوجس وتهجس ما ابتعدوا عن العقل في النظر وجافوا مصالحهم المشروعة كجماعات لا كطوائف أو حكام ومحكومين ، ذلك أن الكل على متن سفينة الوطن ، وإذا ما مالت إلى الغرق فإن الهاوية تنتظر الجميع .