تمرّ اليوم ذكرى «هيروشيما»، ففي السادس من أغسطس 1945م قصفت الولايات المُتَّحدة الأمريكية هذه المدينة اليابانية الآهلة بالقُنبلة الذرِّيَّة الوليدة آنذاك، والتي بدت لرجالات الحُروب العُتاة كوحشٍ أُسطوريٍّ لا يُمكن هزيمته أو مُواجهته بالأسلحة التقليدية التي تحوَّلت إلى لُعب أطفال، لذلك استسلمت اليابان، شريك ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، بدُون قيدٍ أو شرط، وهُتك ستر عرشها الامبراطوري الذي يتربَّع على كُرسيّه ابن الشمس المُشرقة المعصوم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنَّ الآلهة لا يُسألون عمَّا يفعلون، وقد انتحر آلاف اليابانيين حُزناً وهُم يستمعون إلى امبراطورهم يأمرهم بالتسليم والإذعان لوثيقة وشُروط إنهاء الحرب التي صاغها برُوحٍ انتقاميةٍ قُصد بها الإذلال، الجنرال الأمريكي «دُوجلاس ماك آرثر»، (1880 – 1964م)، وبذلك انكفأت اليابان إلى جُزرها وزالت شمسها عن مُستعمراتها التي أذاقتها عذاب الهُون في جنون شرق آسيا، فتنفَّست تلك المُستعمرات الصعداء، بما يُؤكِّد أنَّ «مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد»، لكن مكر التاريخ لا يقف بالأحداث الكُبرى عند نُقطةٍ مُعيَّنة، فمُصيبة اليوم قد تغدو غنيمة الغد، ونُقطة الضعف قد تكون هي الطريق إلى نقاط القُوَّة والتفوُّق، وذلك ما حصل مع كُلٍّ من اليابان وألمانيا، اللَّتين اتَّجهتا إلى البناء الاقتصادي والسبق العلمي وتنمية قُدرات الإنسان الذي كان مُكلَّفاً بالحُروب والدمار، فأصبح مُكلَّفاً بالبناء والعمار.
وما هُو إلاَّ عقدٌ من الزمن أو أكثر قليلاً حتَّى بدأ الحصار الاقتصادي الذي أذهل العالم، وفي المُقدِّمة منه الدُّول المُنتصرة، التي تحمَّلت أعباء الدفاع عن بلدين منزوعي السلاح، كما خاضت سباق التسلُّح المُكلِّف مع الاتِّحاد السُّوفيتي، الذي سُرعان ما توصَّل إلى إنتاج السلاح الذرِّي واعتمد التمدُّد الأيديولوجي سياسةً عالمية، فكانت الحرب الباردة التي لم تضع أوزارها إلاَّ بعد تحطُّم جدار برلين وتفكُّك المنظومة السُّوفيتية.
وفي سياقات الحرب الباردة وأعبائها ومخاوفها وصراعاتها نزفت اقتصاداتٌ كثيرةٌ على مذبح سباقات التسلُّح، التي كانت تأتي بكُلِّ جديدٍ من أسلحة الدمار، وصولاً إلى «حرب النُّجوم»، التي عجز السُّوفيت وحلفاؤهم عن مُجاراتها.
وحدهما اليابان وألمانيا، التي اغتنمت فُرصة ارتخاء قبضة مُوسكو، فوحَّدت شطريها، ظلَّتا في خطّهما التصاعدي حتَّى أصبحتا أوثق حليفين في الباسيفكي وأُوروبَّا للولايات المُتَّحدة الأمريكية، وقد غنمتا من الهزيمة – أيضاً – نظامين ديمقراطيين، ونبذتا العُنصرية والتوسُّع من دُستوريهما، والتزمتا التزاماً تامَّاً بما وقَّعتا عليه في وثيقتي الهزيمة، حتَّى غدا أعداء الأمس يتوسَّلونهما لكي تتسلَّحا مُجدَّداً، لكن هيهات «مَنْ لدغه الثُّعبان يخشى من جرَّة الحبل»، ومن البدائل اختارتا الدُّخول في المنظومات الأمنية الغربية، وأعطيتا واشنطن، عن طيب خاطر، قواعد لصواريخها وأسلحتها الذرِّيَّة وعديد جُنودها على أرضهما، بل وأكرمتاها أكثر، فساهمتا في النفقات بعد أن امتلأت خزائنهما بالأصفر الرنَّان والأخضر الريَّان، والسُّؤال هُو : «مَنْ يا تُرى خرج مُنتصراً من الحرب على المدى البعيد؟».
إنَّ الدُّموع والدماء التي سُفكت قد شحذت الهمم وَجَلَت العُقول وأخصبت الأرض وشيَّدت المصانع وجعلت الاستقرار السياسي في البلدين المهزومين حقيقةً وطنيةً مُجمعاً عليها بعد أن كانت الحُروب والمطامع والأيديولوجيات العُنصرية والتوسُّع الخارجي مصدر شقاقٍ وإفقارٍ وعدم أمان، فَمَنْ غَدَر بغيره – كما فعلت اليابان بالأُسطول الأمريكي في «بيرل هاربور» عام 1941م، وكما فعل «هتلر» مع الاتِّحاد السُّوفيتي بعد أن تحالف مع «ستالين»، فغدر به بعد أن حضَّر لأعظم زحفٍ في تاريخ الحُروب، والذي تحطَّم على أسوار «ليننجراد» – لا يأمن أن يشرب من الكأس نفسها، فَمَنْ لا وفاء عنده لا عهد له :
«والظُّلم من شِيَم النُّفوس فإن تجد
ذا عفَّةٍ فَلِعَلَّةٍ لا يظلَم»
ويقول داعية السلام المُقيم في كندا الدُّكتور «خالص جلبي» : «إنَّ يوم 16 أغسطس 1945م كان مُفترق طُرقٍ بين الشرّ والخير، فقد مضى الجنس البشري يكيد بعضه بعضاً، فكانت هيروشيما إعلاناً لحقيقة أنَّ القُوَّة وصلت إلى الوضع الذي فشلت فيه، فكان فُراقها مع العلم، فالقُوَّة جاءت من العلم، والعلم حَكَم على القُوَّة بالإعدام».
كانت هيروشيما هي الأُولى وهي الأخيرة، وبذلك وضعت حدَّاً للحُروب العالمية الماحقة، وحيَّدت القُنبلة الذرِّيَّة نفسها، لكنَّ قلق الذرَّة استمرَّ في استخداماته السلمية.
اليوم دخلت الحَلَبَة النووية حفنةٌ من الدُّول الفاشلة المُضطربة، وهي التي تُهدِّد بدفن سلام هيروشيما والعودة بالبشرية إلى المحرقة.