مركب الديمقراطية…

نَمَت الديمقراطية في الأنظمة اللِّيبرالية نُموَّاً مُتوازناً إلى حدٍّ كبير، حيثُ لا يجور رُكنٌ من أركانها على ما عداه، فيتحوَّل إلى خلايا سرطانيةٍ مُميتةٍ تُعطِّل الآلية برمَّتها، ولمَّا كانت الديمقراطية إبداعاً إنسانياً عقلانياً، فإنَّ الكثير من النواقص ستظلُّ تُلازمها، شأنها شأن أيّ مُنجزٍ إنسانيٍّ يتطلَّع إلى الكمال دُون أن يطاله، فالكمال للَّه وحده، لكنَّها – أيْ الديمقراطية – تتلألأ في المسيرة الإنسانية الصامدة كجوهرة التاج، لأنَّها أقرب النُّظم إلى الفطرة، وأدناها من العدالة، وأبعدها عن الديكتاتورية المُقيتة والاستئثار الظالم، وهي تُرتِّب للوصول إلى غاياتها مراحل معلومةً ومسافاتٍ مرموقةً ومواعيد محتومةً لتتمكَّن من إكمال دورةٍ زمنيةٍ وبدء أُخرى بعد أن تكون الأضواء الكاشفة قد سُلِّطت على ما مضى ليتبيَّن الرُّشد من الغي والسياسات الصحيحة من السياسات الكسيحة، كما أنَّ النظر إلى المُستقبل يتسيَّد الحملات الانتخابية ليعرف الناخبون ماذا ينتظرهم وكيف هي صُورة مُستقبل وطنهم وأبنائهم، فيكونون على بيِّنةٍ من أمرهم وهُم يذهبون إلى الصناديق للاقتراع والدفع بـ «زيد» أو «عُبيد» إلى كُرسيّ المسؤولية، التي هي تكليفٌ مشروط، بعيداً عن التشريف الذي يُوحي الغُرور إلى البعض أنَّهم يستحقُّونه ليكونوا فوق القانون وخارج إطار المُنافسة.
وإذا ما وضعت الانتخابات أوزارها وتبيَّن الفجر الصادق من الفجر الكاذب، آن أوان العمل والهُدوء وانصرف كُلّ مُواطنٍ إلى ما يُحسنه من عمل، فهُناك الآن رُبَّانٌ للسفينة ومُساعدون يأتمرون بأمره، ولقد لاحظنا في الفترة التي كان فيها «أُوباما» في مساحة الانتظار بين انتهاء رئاسة «بُوش» وابتداء رئاسته، تحاشيه الخوض في أيِّ عملٍ سيادي، لأنَّه – على حدِّ تعبيره – لا يُوجد سوى رئيسٍ واحدٍ للولايات المُتَّحدة، فليس من اللاَّئق ولا من الديمقراطية أن يستعجل صلاحياته قبل أوانها، ولو كان يوماً واحداً أو بضع ساعات، على الرُّغم من أنَّ «بُوش» كان في مرحلة «البطَّة العرجاء» – حسب التعبير الغربي – وهي المرحلة التي لا يهشّ فيها ولا ينشّ، وتُغري كُلّ مَنْ بيده حجر أن يرميه، لكن، هذا أمرٌ وذلك أمرٌ آخر، وحين غادر الفريق الرئاسي الذي أَفَلَتْ نُجومه المسرح السياسي وانحسرت عنه الأضواء، أصبح كأنَّه «نسياً منسيَّا»، فعلى المسرح الآن بُطولةٌ جديدةٌ ينبغي أن تكون في مركز النُّور، وهذه من الحسنات التي تنبتها التُّربة الديمقراطية، فلا يستشعر رئيسٌ راحلٌ غضاضةً في نفسه أو مرارةً في حلقه أو ذلاقةً في لسانه تسمح له بالجئير والجعير والتعلُّق بأهداب ما مضى، ذلك أنَّه وإدارته قد أُحيلوا إلى مُستودع التاريخ الذي يُقلِّب أضابيرهم ويزن حسناتهم وسيِّئاتهم، حتَّى يخلص إلى المكان الذي ينبغي إسنادهم إليه، «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَه».
لذلك نُلاحظ أنَّ الرُّؤساء مُنذُ اليوم الأوَّل يبدأون عملهم تكون أعينهم على اليوم الأخير في الولاية الأُولى من أجل التجديد والاستمرارية، وفي الولاية الثانية من أجل الفوز بفُرصةٍ أفضل في كتاب التاريخ، وهُم يتفاوتون في حظوظهم وأقدارهم وأوزانهم على قدر عُقولهم وحُسن اختيارهم لمُساعديهم ولمَّا هيَّأتهم للمُتغيِّرات من حولهم وحُسن استجاباتهم لها.
ولمَّا كان العالم مُعقَّداً ولظواهره أعماقٌ مغمورة، ولمَّا كانت مراكز القوى مُتعدِّدةً بقدر تعدُّد مصالحها، فإنَّ مسألة الحُكم والسيطرة والسير بالمركب إلى الأمام هي من بين أصعب الأُمور وأكثرها خُطورةً.
كُنتُ أُتابع بانتباهٍ أداء الطاقم الرئاسي الأمريكي الجديد، فأُلاحظ التزام التراتبية الصارم، فـ «جُوبايدن»، نائب الرئيس، يسند كُلّ عمله إلى توجيهات الرئيس وما يُريده وما يطلبه، وكذلك «هيلاري كلينتون»، وزيرة الخارجية، وخدنها وزير الدفاع «رُوبرت جيتس»، ذلك أنَّه لا يُوجد سوى قائدٍ واحدٍ للمركب، على عكس ما يدَّعيه الطامحون والطامعون في العالم الثالث، الذين لا يرون سوى وجوههم في المرآة.

 

اترك تعليقًا